مأزق التنوير العربي (2)
يلقي كتاب الروائي والباحث الأستاذ صبحي موسى «مأزق التنوير العربي.. صراع العقائد وبنية التحالف الرجعي»، الصادر مؤخرا عن «روافد للنشر والتوزيع» بالقاهرة، حجرا في بحيرة راكدة، لاسيما في أيامنا هذه التي تحول فيها «التنوير» إلى مصطلح كريه أو محل توجس، في ظل أطروحات تربط التنوير باجتراح تعاليم الأديان أو نبذها بالضرورة، أو بالغزو الفكري والثقافي.
وأخرى تراه أفقا للتبعية الفكرية والقيمية، وثالثة تراه مُتسربلا بالمركزية الأوروبية، وثالثة تنتقد التجربة الغربية نفسها، التى إن كانت قد نجحت في صناعة نموذج سياسي معتبر يتمثّل في الديمقراطية، فهي لم تقدّم نموذجا اجتماعيا ملهما في كل الأحوال، بدليل ما يقدمه علماء اجتماع وفلاسفة أوروبيون في نقد المجتمع الغربي مثل الإنجليزي أنطوني جيدنر في تشريحه لمشكلات المجتمع البريطاني على مستوى قضاياه الفرعية، والبولندي زيجموند باومان في انتقاده الشديد لابتعاد الغرب عن الروحانية والخلقية خلال الكثير من كتبه، وفي مقدمتها «الحداثة السائلة»، وبدليل أيضا تردي البروتستانتية الغربية إلى استعارة تصورات دينية تاريخية مغلّفة بالأساطير، صارت توجّه الكثير من سياسات الغرب حيال العالم.
يقول لنا هذا الكتاب بوضوح إنّ دورات التنوير في مجتمعنا لم تكتمل، ولم يقدر لها المرور بالمسار الأوروبي، الذي بدأ بالفن والأدب، ثم الفلسفة والفكر، وصولا إلى العقد الاجتماعي، ووجدت في كل محاولاتها من يُجهضها، لأسباب سياسية ودينية، وبالأحرى تحالف رجعي بين الطرفين اللذين يصنعان هذه الأسباب، وهنا يقول: «خسر التنوير معركته في كل المراحل وتحالفت السلطات والفكر الديني على التنكيل به خشية على امتيازاتها، ومد أمدها»..
كما يدين «موسى» المثقفين، لأنهم لم يبذلوا الجهد الكافي في سبيل تغيير السياق الاجتماعي السياسي، و«اكتفوا بتنوير الحاشية والطبقة الموالية والجهاز الإداري للدولة، إذ لا بد أن ينتشر النور في مختلف المدن والقرى، ويصل مداه إلى أعمق أعماق المجتمع، حينها ستكون قاعدة الهرم على أرض مُتسعة، ولن يتمكن تغيير الباشا، ولا مجيء الاحتلال من وقف قطار التحديث، الذي انطلق، وربما من الأصل لن تتعرّض البلاد للاحتلال ولا الغزو بفضل الوعي الذي تراكم لدى نخبها، وتوافر قنوات توصيله إلى الجماهير».
وفي اكتشافه أهمية إصلاح السياق أو تغييره لتذليل العقبات، التي تحول دون ميلاد تنوير عربي عفي، اختار الكاتب، أو ارتضى وأقر، بوعي شديد أن يضع على غلاف كتابه عبارة تقول: «ما زالت خطوة المطالبة بفصل الدين عن الدولة حاجزا لا يمكن تجاوزه، حتى الآن، ومن ثم لا يمكننا الحديث عن احترام العقل وإعماله، ولا عن آليات اختيار السلطة، وضمانات حرية الاعتقاد والتفكير والرأي، وصولا إلى الحق في التعليم والصحة والمسكن والغذاء، فكل هذه أمور مُرتهنة بإنجاز العقل العربي الخطوة الأهم في مسار التنوير، وهي تحرير مجريات الحياة العامة من سُلطة النص الديني، والتفكير من منطلق البحث والاكتشاف والمعرفة العلمية وليس من منطلق إثبات صحة النص».
لكن الكاتب، وهذا من حسنات رؤيته، لا يُهمل عقبة أخرى كؤود وقفت دون تمثل مشروع التنوير الغربي، ليس بالضرورة في مضمونه ومقولاته، وإنما في منهجه واقتراباته العلمية والمعرفية، ألا وهي ربط التنوير بالنزعة الاستعمارية التي تتوسّل كثيرا بالفكر في سبيل تحصيل المنفعة المادية عبر الهيمنة، وهنا يقول: «هكذا جاء الخطاب الكولونيالي الأول في تاريخ الشرق الحديث، مازجا بين الاستعمار والتنوير في جملة واحدة، لتبدأ تلك العلاقة الملتبسة بين العرب والغرب، فجانب منها يقوم على العقل والفضائل والعلوم، وهو الجانب التنويري، والجانب الآخر يقوم على البوارج والمدافع والجنود، وهو الاستعمار بتنويعاته وأشكاله المتباينة، ما جعل أصحاب التنوير في مأزق».
نحن أمام كتاب مهم، بذل صاحبه جهدا واضحا، في سبيل وضعنا أمام حقيقة جليَّة عن المراوحة، بل التخلف الفكري الذي يسود حياتنا، ليُطلق صرخة تقول إننا يجب ألا نتذرّع بأي شيء كي نُبقى التنوير معلقا في الفراغ، أو محبوسا في قمقم.