د. أحمد الطيب.. هدية السماء
بعد أن قابلته عدة مرات بعد عام 2011 قلت له: مولانا الكريم أراك تسير على خطى الإمام الزاهد العابد المجدد د/ عبدالحليم محمود وستكون على دربه وستكمل مسيرته الخالدة، فنظر إلىَّ بحيائه المعروف ثم قال بتواضعه الشهير: «أين أنا من د/ عبدالحليم محمود».
مرت الأيام وإذا بهذه النبوءة تصدق بل يقتحم د/ الطيب مجالات أوسع في الإصلاح بين الناس ودعوة الخلق إلى الحق وجمع شتات هذه الأمة والدفاع عن قضاياها المصيرية كلها.
وقد أعجبني تعبير الشيخ المستاوي وهو عالم تونسي عاشق للإمام الأكبر حينما قال «د/ الطيب هو هدية السماء للمسلمين والعالم»، قلت له: صدقت، فقد أصلح بين المسلمين والمسيحيين في مصر وجمع اللُّحمة الوطنية ووفقه الله لبناء صرح وطني غير مسبوق سماه «بيت العائلة المصرية»، ويتكون من علماء الأزهر وقسس من الطوائف الثلاث المصرية مع حكماء وكبار في كل منطقة ومقره الأزهر في كل المحافظات، ويرأسه بالتناوب الإمام تارة والبابا أخرى بالتساوى، وقد حل آلاف النزاعات ونزع فتيلها.
وأصلح بين المسلمين بعضهم البعض، فقد استطاع بصدقه وتجرده وعبقريته أيضا أن يجمع في مؤتمره الأخير للحوار الإسلامي - الإسلامي في البحرين أربعمائة عالم ومفكر من كل الأطياف والمذاهب الإسلامية من السنة والشيعة والإباضية والزيدية من كل أنحاء العالم، فكان هناك من دول الخليج وموريتانيا والسنغال وساحل العاج والمغرب وتونس والجزائر وليبيا وروسيا وبريطانيا وأمريكا، وأذربيجان وإندونيسيا وماليزيا وداغستان وتركيا وغيرها، استطاع جمعهم في بوتقة واحدة وروح واحدة.
حتى إنهم أجمعوا على حب هذا الإمام الصادق الزاهد، كلهم يمدحه سرا وعلانية، كلهم يثمِّن ويبارك خطواته، كلهم يتفاعل مع منهجه السديد الذي ينص على أن كل من قال «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» وآمن بالكتاب والسنة فهو من أهل القبلة ولا يجوز تكفيره ولا تفسيقه ولا سفك دمه، وأنّ الاختلاف الفقهي أو الفكري بين المسلمين سنة كونية، ولا يمكن حسم مسائل الخلاف الآن ولم يتم ذلك من قبل.
ودعا الأمة لتجاوز الصراعات التاريخية بكل أشكالها ورواسبها، وأوضح أنّ الصراع بين السنة والشيعة لا مسوغ له من وجهة نظره، والخلاف بينهما لا يعني كفر أحدهما، وشدد مع غيره من العلماء على أنّ الحوار الذي نحتاجه ليس سجالا عقائديا أو تذويبا للمذاهب، ولكن للتفاهم والبحث عن المشتركات الواسعة بيننا، وأن وحدة الأمة الإسلامية عهد موثوق وميثاق مصون، وأنّ فلسطين هي بوصلة الأمة الهادية وقضيتها الكبرى تقف شاهد صدق على ضرورة اتحاد تعاوني يدافع عن حقوق هذه الأمة، ولا يريد الإمام بالاتحاد أن تذوب دول في دول ولكن تتوحد في المشتركات بيننا، وهي أكثر بكثير مما عند الأوروبيين الذين توحدوا في عدة مؤسسات مع الحفاظ على خصوصية كل أمة ودولة.
وقال الإمام الأكبر إنّ المؤتمر يعقد في ظروف تقف فيها أمة الإسلام على مفترق طرق وفي مهب ريح عمياء عاتية، وإنّه لولا تفرق الأمة ما جرأ أعداؤها وخصومها على ما فعلوا في غزة ولا قالوا بتهجير شعبها.
وقد وضع المؤتمر شعارا ذكيا عنوانه «أمة واحدة ومصير مشترك»، والحقيقة أنني لم أر إجماعا سنيا وشيعيا إباضيا زيديا على أفكار أحد مثلما اجتمعوا على فكر الإمام الداعي دوما للتوحد والتآزر ونبذ الفرقة.
ويعد الإمام الطيب هو أقوى صوت عربي وإسلامي يدافع عن فلسطين، وهذا ليس بجديد عليه، فالمؤتمر العالمي الوحيد الذى عقد عن القدس منذ سنوات كان بقيادة الأزهر ورئاسته، وقد جمع فيه كل أطياف المسلمين والمسيحيين وبعض حاخامات اليهود المعارضين للفكر الصهيوني واحتلال فلسطين، وكانت هذه أول مرة يتسع فيها صدر الأزهر ليتحدث حاخامات في رحاب الأزهر ويدعموا قضية فلسطين.
ولا ننسى أن الأزهر الرحب الذى قاد ثورة 1919 وكان محركها الرئيسي في شوارع مصر اتسع صدره ليخطب على منبره مرارا القس سرجيوس وامرأة يهودية مصرية كتبت عنها مقالا كاملا من قبل لدعم استقلال مصر عن بريطانيا.
رحابة وتعددية الأزهر ينشأ عليها الطالب الأزهري منذ التحاقه بالابتدائية الأزهرية، فيرى الدراسة بالمذاهب الأربعة، بل يدرس بعد ذلك المذهب الجعفري، فيتعلم أن الخلاف في الرأى والفقه لا يفسد للود قضية.
الإمام حوَّل الأزهر إلى واحة تسع الجميع وترحب بالجميع وتوحد الجميع، ولعل في وثائق الأزهر الخمس الذى شاركت في معظم جلساتها نموذجا فريدا لعبقرية وصدق الإمام، وذلك في عام 2011 حيث كان الناس يبحثون عن مساحات الصراع والنزاع، والإمام وتلاميذه يبحثون عن مساحات التوافق والتآزر، وثيقة مستقبل مصر ووثيقة إرادة الشعوب العربية، ووثيقة القدس، ووثيقة الحريات الأساسية، ووثيقة نبذ العنف، ووثيقة المواطنة والعيش المشترك، أما أقواها فهي وثيقة الإخوة الإنسانية مع بابا الفاتيكان.
من أراد أن يعرف مكانة الإمام الأكبر يمكنه أن يراها في احتفاء الملوك والرؤساء والزعماء به وفي رحلاته إلى كل بلاد العرب وفي احتفاء الشعوب الإسلامية، وفي حب الشعب المصري كله له، وفي حب العلماء الثقات والساسة المخلصين والمفكرين الوطنيين وتقديرهم لكل خصاله، لقد حفر مكانته بالصدق والزهد والتجرد والشجاعة ومواقف الحق، تحية للإمام الأكبر الذي أحبه من كل قلبي، وتحية للأزهر وكل رجاله المخلصين.