الجيل الذي قال «لا..»
آن لنا أن نرفع رؤوسنا، شامخة إلى عنان السماء، نرد على المعايرين كيدهم، من قال إننا جيل بلا قضية، من ادَّعى أننا لم نواجه ما واجهه الآباء، من قال إن «أكتوبر» آخر حروبنا، وإن من لم يحارب في أكتوبر فلم يكتب بين الرجال، وإننا منذ الانتصار في انفتاح آتٍ على كل الثوابت، فلم يعد المصري بعد 76 مثلما كان قبلها، فما استراح في نفسه وما سكن في ضميره مثل الموت لا قيام منه إلا حين تكتب الساعة.
كان الآباء قساة القلوب، فظاظ الألسنة والمواقف، في المقارنة المعقودة دوماً بيننا وبينهم، نحن من تنعمنا بكل ما حرموا منه، بسبب الحرب تارة وظروف البلد أخرى، نحن من نشأ في كنف السلام وهم من عانوا من أجل أن يتحقق السلام، نحن من جذبوه من يديه ليصافح أعداءه تارة باتفاقية كامب ديفيد وأخرى بالعالم المفتوح على كل الثقافات، وهم من حاربوا هؤلاء الأعداء وانتصروا عليهم وتركونا لنكمل الانتصارات ونزيدها في كل مجال.
كنا «نحن» و«هم» في مقارنة لا تستقيم، فمن يبنى لا يقارن بمن يحصد، ومن شبع لن يعرف يوماً معنى الجوع، لكننا «نحن وهم قبلنا» عرفنا الكرامة ومارسناها أباً عن جد عن جد وحتى أعظم جد سواء امتد للفراعنة أو المسلمين الأوائل أو أي من الحضارات التي تشكل الهوية المصرية بالأعمدة السبعة التي فصلها المفكر الكبير «ميلاد حنا».
أشهد لأبى وهو أحد المحاربين -رغم أنه وحيد والديه- في صفوف «المقاولين العرب» على جبهة الانتصار وتحطيم «بارليف»، أنه كان دوماً يذكِّر أخي بالحديث الشريف «اخشوشنوا فإن النعم تزول» -وبعيداً عن ضعف نسبه لسيدنا النبي محمد- كان منطقه أننا جيل بلا هوية، بلا قضية، نشأ مستهلكاً لكل ما عاشوا سنوات يبذلونه ودفعوا فيه الغالي والثمين.
كان دوماً يستشهد بالحرب وما رآه فيها، شبابه وكل أقرانه الذى ضاع دفاعاً عن الأرض والعرض، وكلما احتد النقاش بينهما كان يحثه «أنا حميت بلد.. حافظ أنت على اللى حميته»، حفظ أخى العبارة عن ظهر قلب، ومل تكرارها، ولولا أن أبى غادرنا في معمعة الفترة الانتقالية بين لعنة الإخوان وبناء الدولة، لكنا برهنا له على أننا الجيل الذى فاق كل من سبقه، ليس في الهوية والقضية فحسب، بل في التحديات والرهانات وأيضاً في أدوات المقاومة وأسلحة المواجهة.
ليتك يا أبي أمامنا الآن لأعدد لك مناحي التفوق، وأرد وأخي عن جيل بكامله، نرفع رؤوسنا في فخر، نحن من حق فيهم وصف «قتل واتقتل»، نحن من حارب دون سلاح، من تسلح بالوعى وقرر أن يصد به كل هجمة، من فضح فصيلاً ظاهره ديني وباطنه إرهابي، وطرده إلى خارج حدود الوطن إلى غير رجعة، من ربط الحزام وصبر على البلاء 30 عاماً كاملة، وحين تخلص من ابتلائه محاولاً النهوض، سقط في براثن بئر عميقة، لم ينقذه منها إلا أن تسلح بإيمانه واشتد ساعده، تشبث بالأمل وصدق في الحلم، فأتاه النصر.
وما إن استراح واستفاق، حتى انهالت عليه الصواعق، واحدة تلو الأخرى، هذا وباء.. وهذه حروب.. وتلك نزاعات وفرقة تقسم العرب بعضهم على بعض، وكأنه كتب علينا القتال عزلاً، نحارب عدواً لا نراه لكنه يراناً، نكافح في صمت ما يليق أن نكافحه في صراخ، وفي كل حرب نكفن أحلامنا ونؤجلها، ونبقى على الحدود الدنيا من الآمال التى تحقق لنا النصر في المعركة والبقاء على قيد الحياة.
نحن الجيل الذى قال لا لكل من أحبطه وقتل فيه الحلم، قال لا لـ«مبارك وتوريثه»، ثم قالها لـ«التنظيم وإرهابه»، وظل على «قولة لأ» لكل ما لا يقنعه أو يشعر بجدواه لمستقبله، فكل ما بنيناه سيحصد ثماره أبناؤنا، مثل آبائنا الذين أتوا لنا بالنصر لنعيشه نحن تحت ظل العلم أعزاء بين كل الأمم.. حتى جاءت أصعب لا في تاريخنا، فكل ما سبقت من لاءات جيلنا كنا نقولها ونحن ننفذها، لكن هذه المرة الـ«لا» كانت صعبة، نقولها وحولنا من يعرقلنا ويمنعنا عن تطبيقها، من يقف بسلاحه وعتاده ومشروعه وتصريحاته ومعونته وتهديداته أمام عزيمتنا تنفيذ الـ«لا»، كلما تشبث هو بما يريد، تشبثنا نحن بما نريد، وبين تشبثنا وتشبثه فارق واحد، هو يستند على إرادته التى لا تقهر، ونحن يسندنا اليقين والإيمان الذى لا ينهزم، هو ينادى بـ«التهجير» ونحن نتحرك لـ«الإعمار».
نحن الجيل الذى قال «لا بحسم» في الوقت الذى قال فيه غيره «لؤه بميوعة»، ننتظر وأد مشروع التهجير والخروج على رأس العالم كله لإعمار الأرض وإعادة الحياة لها، بعدها نحتاج إلى استراحة محارب، كفانا لاءات في معارك أكبر من طاقتنا، آن لنا أن نستريح لنحصد نتاج ما زرعناه، وحتى نربى ونعلم أبناءنا متى نقول «لا» وكيف ننفذها.