مأزق التنوير العربي (1)
هذا عنوان كتاب للروائي والباحث الأستاذ صبحي موسى، صدر مؤخرا عن «روافد للنشر والتوزيع» بالقاهرة، وجعل من عبارة «صراع العقائد وبنية التحالف الرجعي» عنوانا فرعيا له، وهي المرة الثانية لكاتبه التي ينتقل فيها من الأدب، الذي صدرت له فيه خمس مجموعات شعرية وتسع روايات وكتاب في أدب الرحلات، إلى البحث والفكر، حيث سبق له أن أصدر كتابا لافتا في علم الاجتماع الثقافي قبل عامين عنوانه «تحولات الثقافة في مصر».
استفاد «موسى» في كتابيه هذين من كونه دارسا لعلم الاجتماع في جامعة المنوفية، وحاصلا على درجة الليسانس فيه عام 1994، ورغم أنّ أعماله الروائية حققت نجاحا على مستوى النقد والاهتمام أو حصد الجوائز، ودارت حول أفكار مهمة يموج بها المجتمع المصري بدءا من أوله أيام مصر القديمة وحتى ثورة يناير وما بعدها من تحولات ومآلات، فإنه وجد نفسه مجذوبا إلى طرح أفكاره عيانا بيانا، وبطريقة مباشرة، بعيدا عن شروط الفن ومقتضياته، شعرا وسردا، لأنه يشعر أن لديه ما يقوله بلا مواربة.
وكما اختار «موسى» موضوعا مهما عن مشكلاتنا الثقافية الراهنة من قبل، فإنّه يورد هذه المرة موضوعا متصلا بها، ينظر إلى شمولها، ويرسو في أعماقها، ويمثل جوهرها، بل يمس وجودها وهو «التنوير»، مدركا هذا جيدا، منذ السطور الأولى للكتاب التي يقول فيها: «تعيش البلاد العربية مأزقا وجوديا مع فكرة التنوير، منذ بدايات عصر النهضة العربية وإلى الآن»..
يقلب الرجل، متوسلا بالبحث العلمي الذي تدل عليه الإحالات المرجعية التي أوردها في مسرد بنهاية كتابه، فيقتبس منها ويحيل إلى مضامين أفكارها المطروحة على هذا الدرب، سواء التى ولدت في ركاب الدولة أو في رحاب المجتمع، وجاد بها مفكرون عرب توزعوا على مسارات واتجاهات شتى، لا يزال جدلها قائما في معاشنا، نستعيدها ونستعيرها ونحن نتحرك في المكان لا نبرحه إلى الأمام، ونحول المسألة إلى شكل بلا موضوع، وإلى صراع أو تنافس سياسي أكثر منه فكريا، لنقف به، رغم كل الجهود التي بذلت في هذا المضمار «عند حدود المرحلة الأولى من التنوير الأوروبى، وهي مرحلة الثورة البروتستانتية».
ناقش الكتاب مسار التجربة منذ عصر محمد علي في مصر، وما سبقه من آثار الحملة الفرنسية، ثم عرج على ما كان في بلدان عربية أخرى، لذا كان من الطبيعي أن يأتي على ذكر من يصفهم بـ«آباء التنوير»، فيحلل لنا في سطور مكثفة مشاريع رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وطه حسين وعلي عبدالرازق ونصر حامد أبوزيد وخير الدين التونسي ونجيب عازوري ومحمد أركون وفاطمة المرنيسي، موزعا منتج هؤلاء على اتجاهات أو تيارات إسلامية وقومية، واشتراكية وليبرالية، وعلمانية ودينية، وبين نزعات ترى التنوير في العودة إلى الخلف، وأخرى ترى بالسير خلف التنوير الأوروبي، وثالثة تحاول التوفيق بين المسارين، دون أن يهمل البذور البعيدة التي تجسدت في تصور المعتزلة.
يضع الكاتب يده باقتدار على كثير من الأسباب أو العقبات التي حالت دون تقدم «التنوير العربي»، وفي مطلعها التسلف الديني، والاستبداد السياسي، وغلبة التقاليد الاجتماعية المتكلسة، ويصفها هنا بأنها «جملة من الأسباب المترابطة معا كأنها في حالة تحالف على الوعي العربي، بحيث لا يمكنه أن ينطلق من قيوده كي يسهم في بناء الحضارة الإنسانية الحديثة». ولذا نجد الكاتب يسارع إلى القول إن استلهام التجربة الأوروبية فيه ما يفيدنا كثيرا، أو حسب تصوره ينادي بثورة دينية، وتطور سياسي إصلاحي على الأقل، يصنع للتنوير إطارا أو مرجعية متماسكة ومتجذرة تجذبه قُدما.
(نكمل غدا إن شاء الله تعالى)