أنسنة المهن والوظائف

في الأسبوع الأخير من شهر يناير 2025م، تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي، حاكم إمارة الشارقة وعضو المجلس الأعلى للاتحاد فى دولة الإمارات العربية المتحدة، يقول فيه إنه قد أمر بإلغاء مسميات «فراش» و«حارس» و«سواق» فى حكومة الشارقة، وإن هذه المسميات لن تكتب فى بطاقة هوية الشخص، وإنما يكتب مسمى «موظف» أو «موظف حكومى».. حتى لا يُهان أمام أولاده حين يسألونه عند وظيفته.

وفى الثالث من شهر نوفمبر 2022م، نشرت وكالة أنباء البحرين تصريحاً منسوباً إلى المدير العام لشئون المدارس رئيس لجنة تطوير الهيكل المؤسسي لوزارة التربية والتعليم، معلناً إلغاء مسمى «حارس أمن» والاستعاضة عنه بمسمى «أخصائي الانضباط والأمن المدرسي»، مؤكداً أهمية الدور الذى يقوم به قسم الأمن والسلامة المدرسية فى متابعة انضباط حركة الدخول والخروج إلى ومن المدارس، والصعود والنزول إلى ومن الحافلات المدرسية، وتنفيذ لوائح وإجراءات التعامل مع الزائرين، والمحافظة على أمن المؤسسات والمنشآت التعليمية بوزارة التربية والتعليم على مدار الساعة، والعناية بإجراءات السلامة.

وبين المدير العام لشئون المدارس أن مشروع تطوير الهيكل المؤسسي لوزارة التربية والتعليم لم يغفل الاهتمام بفرق الأمن والسلامة، حيث تم التنسيق مع جهاز الخدمة المدنية والانتهاء من إلغاء مسمى «حارس أمن»، ومسمى «حارس أمن أول»، والاستعاضة عنهما بمسمى «أخصائي الانضباط والأمن المدرسي»، و«أخصائى الانضباط والأمن المدرسي أول»، مع إعادة تصنيف هذه الوظائف لتصبح الأولى على السادسة الاعتيادية، والثانية على السابعة الاعتيادية، مع إعادة تصنيف وظيفة «مشرف الأمن» لتكون على الثامنة الاعتيادية.

وبذلك تكون جميع وظائف قسم الأمن والسلامة المدرسية قد خضعت للتطوير وإعادة التصنيف، بما يلبى احتياجات منتسبى القسم ويحقق التطوير المطلوب فى النمو المهنى والوظيفى، مبيناً أن إدارة الموارد البشرية بوزارة التربية والتعليم تعمل حالياً بالتنسيق مع جهاز الخدمة المدنية على تبديل المسميات الوظيفية لجميع منتسبى القسم وفق ما تم اعتماده من مسميات جديدة.

وجدير بالذكر فى هذا الصدد أن بعض الأنبياء والرسل قد مارسوا المهن والحرف البسيطة والشاقة المعروفة فى عالم اليوم، حيث ورد ذكرها فى القرآن الكريم. فعلى سبيل المثال، وفيما يتعلق بمهنة الخياطة، يقول المولى عز وجل فى الآية الثانية والعشرين من سورة الأعراف: «وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ»، وهى مهنة إدريس عليه السلام.

وفيما يتعلق بمهنة الحدادة، يقول تعالى فى الآية السادسة والتسعين من سورة الكهف: «آتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ»، وهى مهنة داود عليه السلام. وعن مهنة النجارة، يقول سبحانه فى الآية السابعة والثلاثين من سورة هود «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا»، وهى مهنة نوح عليه السلام.

والواقع أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هو أول من بادر إلى أنسنة المسميات المهنية.

فعن قيس بن أبى غرزة رضى الله عنه قال: كنا نُسمى فى عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم السماسرة فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمانا باسمٍ هو أحسنُ منهُ فقالَ يا معشرَ التجَارِ إن البيعَ يحضرُهُ الحلِفُ واللغوُ فشوبوهُ بالصدقةِ» (صحيح ابن ماجه).

وفى رواية أخرى: كنا بالمدينةِ نبيعُ الأوساقَ ونبتاعُها، وكنَّا نُسمِى أنفسَنا السماسرةَ، ويُسمِينا الناسَ، فخرج إلينا رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم ذاتَ يومٍ، فسمَّانا باسمٍ هو خيرٌ من الذى سمَّينا أنفسَنا، وسمانا الناسَ، فقال: يا معشرَ التُجَارِ إنه يشهَدُ بيعَكم الحلِفُ والكذِبُ فشُوبوه بالصَّدقةِ (صحيح النسائى).

وفى هذا الحديثِ: يقولُ قَيسُ بنُ أبى غَرَزَةَ رضِى اللهُ عَنه: «كنَّا بالمدينةِ نَبيعُ الأَوساقَ ونَبتاعُها»، أى: يَبيعون مَكايِيلَ تُسمَّى الأَوساقَ ثمَّ يَشتَرونها، وقيل: يَحتمِلُ أنْ يَكونَ المرادُ بَيعَهم ما يُكالُ بتلك الأَوساقِ مِن الحُبوبِ؛ كالحِنطَةِ والشَّعيرِ ونحوِ ذلك، والوَسْقُ: مِكيالٌ يسَعُ ستِّين صاعاً بصاعِ النَّبى صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، والصَّاعُ أربعَةُ أَمدادٍ، والمُدُّ مِقدارُ ما يَملأُ الكفَّين المعتدِلَين.

«وكنَّا نُسمِّى أنفُسَنا السَّماسِرةَ، ويُسمِّينا النَّاسُ»، أى: يُطلِقون على مَن يُمارِسُ هذا النَّوعَ مِن البَيعِ: السَّماسِرَةَ، وهو: اسمٌ للمُتوسِّطِ بين البائعِ والمُشترى لإمضاءِ البَيعِ، «فخرَج إلينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ذاتَ يومٍ، فسمَّانا باسمٍ هو خَيرٌ مِن الَّذى سَمَّينا أنفُسَنا».

قيل: وإنَّما غيَّر النَّبى صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لفظَ «السَّماسرةِ» إلى «التُجارِ»، وإنْ كانَا اللفظانِ عبارةً عن التَّصرفِ فى رأسِ المالِ طلباً للرِبحِ؛ لأن «السَّماسِرَةَ» لَفظةٌ أعجَميَّةٌ تَلقَّوْها عن البائِعينَ العَجمِ؛ فغيَّره إلى التِّجارةِ الَّتى هى مِن الأسماءِ العربيَّةِ، ولأن المتوسِّطَ بَين البَائِع وَالمشتَرِى يكونُ تَابعاً وقد يميلُ عَن الأمانَةِ والدِّيانةِ، بخِلافِ التُجارِ فإنهم مُصاحِبونَ لهم مع شُمُولِ التُجارِ التَّابِعين أيضاً، والتجارةُ أيضاً قد ذُكِرتْ فى مَقامِ المدحِ فى مواطن من القُرآنِ، كما فى قولِه تعالى: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ» [الصف: 10]، وقد كان النبى صلَّى الله عليه وسلَّم يُغيِّرُ بعضَ الأسماءِ المُستهجَنةِ إلى أسماءٍ حَسنةٍ، وما اختارَه النبى للناسِ هو أفضلُ مما اختاروه لأنفسهم، «وسمَّانا النَّاسُ»، أى: وعلى تلك التسميةِ التى سمانا بها النبى صلَّى الله علَيه وسلم اتبعه النَّاسُ فيها.

ولم يقف اهتمام النبى صلى الله عليه وسلم عند حد تغيير المسمى، وإنما أرشد إلى تهذيب سلوكيات المشتغلين بالتجارة، فقال النبى صلى اللهُ علَيه وسلم: «يا مَعشَرَ التُجارِ، إنه يَشهَدُ بَيعَكم الحَلِفُ والكَذِبُ»، أى: إن مِثلَ هذا البَيعِ يقَعُ فيه كَثرةُ الحَلِفِ، وربما وقَع التاجِرُ بهذا الحَلِفِ فى الكَذِبِ؛ لتَحسينِ سِلعَتِه عند المُشترى، «فشُوبوه»، أى: اخلِطُوه، «بالصَّدَقةِ»، والمرادُ: أن ثوابَ الصَّدقةِ وأَجرَها يُمحَى به ما يقَعُ فى التجارةِ مِن آثامِ الحَلِفِ والكذِبِ، والمرادُ بها صدَقة غيرُ مُعيَّنة، حسَبَ تضاعيفِ الآثامِ، ولَم يأمُرْهم النبى صلى اللهُ علَيه وسلم بالكفارةِ المَعلومَةِ فى الحلِفِ بعَينِها؛ لأنه قد ورَد عنه فى روايةٍ أخرى: «يخالِطُها اللغوُ والكذِبُ»؛ حيثُ جاء اللغوُ فيها مَوضِعَ الحَلِفِ؛ فأفاد أن المقصودَ أنها أَيمانُ لَغوٍ لا كفارةَ فيها، وأما الصَّدقةُ المقدرةُ الَّتى هى زَكاةُ التِجارةِ -وهى رُبعُ العُشرِ- فهى واجِبة عندَ تَمامِ الحَولِ، وليسَت مَقصودةً هنا فى هذا الحديث.