مثقف عربي بارز (1)

عمار على حسن

عمار على حسن

كاتب صحفي

أسعدنى جداً ما أخبرنى به قبل أيام الصحفى المصرى النابه الأٍستاذ لطفى سليمان عن أن المثقف الكويتى البارز الدكتور محمد الرميحى، وأثناء حفل تكريم له فى دبى، قد تحدّث عن شخصى لتسع دقائق متواصلة، هكذا قال لى «سليمان».

وكان الحديث على طاولة يلتف حولها عدد من المثقفين العرب البارزين، وكيف أن «الرميحى» يقدّر كتاباتى ودورى فى الحياة الثقافية والاجتماعية.

ومصدر سعادتى أن «الرميحى»، فضلاً عن دوره الثقافى، فهو الرجل الذى أسهم فى إنقاذى ذات يوم من الرفت من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، دون أن يكون بيننا أى لقاء أو علاقة، من بعيد أو قريب، فى ذلك الوقت.

وقعت عيناىّ على اسم «الرميحى» لأول مرة فى الأيام الأولى لحياتى الجامعية، وكان ذلك تحديداً فى شهر أكتوبر من عام 1985، حين اشتريت عدداً من مجلة «العربى» الكويتية التى رأس تحريرها بعد اثنين من أعلام العرب، وهما د. أحمد زكى، والأستاذ أحمد بهاء الدين.

قرأت مقالة «الرميحى» الافتتاحية، ثم حرصت على هذا كلما صدر عدد جديد من هذه المجلة المهمة جداً وقتها، واتسع حرصى بالسعى إلى اقتناء أعداد قديمة للمجلة من «سور الأزبكية» بالقاهرة، حيث تُباع الكتب والدوريات والمجلات القديمة.

لم أكن يومها أدرى أننى سألجأ إلى ما كتب «الرميحى» فى عدد من هذه المجلة الغراء كى أنجو من الرفت. كنت فى السنة الرابعة فى قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، ودفعنى حماسى المعتاد، أو تسرّع الشباب، وغيرتى على مكانة الجامعات المصرية إلى أن أتحدث عن ظاهرة «البترودكتوراه» و«البتروماجستير» فى مؤتمر علمى نظمه مركز البحوث والدراسات السياسية بالكلية، بالتعاون مع الجمعية العربية للعلوم السياسية فى مطلع فبراير 1989 حول «تطوير مناهج البحث السياسى». كنا أيامها نتهامس عن بعض الطلبة الخليجيين الذين يأتون إلى جامعات مصر، فيجدون من يُذلل لهم السّبل، ويفتح أمامهم باب الحصول على الشهادات العلمية العليا على مصراعيه، دون الاعتناء بأن ترتفع قاماتهم المعرفية إلى قدر درجاتهم الجامعية. وحرصت يومها على ألا أُعمّم هذا على كل هؤلاء الطلاب، فمن بينهم المجتهدون والمجيدون والمبدعون الراغبون فى تحصيل المعرفة، والمحبون للعلم فعلاً، والمعتمدون على عقولهم وسواعدهم.

وما إن انتهيت من مداخلتى التى اتسمت بعفوية صبى غرير، لا تعنيه العواقب ولا تخيفه ردود الفعل، حتى ملأ الغضب وجوه معيدين ومدرسين وأساتذة. وبعد ساعتين فقط كانت رئيسة القسم قد أعدّت مذكرة بشأن الواقعة، تطالب فيها عميد الكلية بتحويلى إلى التحقيق، وتوقيع عقوبة شديدة، تعلمنى حدود الأدب، بعد أن اتهمتنى بالسب والقذف. وأحال العميد المذكرة إلى المحقّق فاستدعانى، ومثلت أمامه مجرداً من المستندات التى تُثبت ما قلت، رغم دقته التى كانت لا تخفى على أحد. لكن كانت معى صورة من مقال نشره «الرميحى» فى مجلة «العربى» واسعة الانتشار، عن هذه الظاهرة. أبرزته أثناء التحقيق وقلت:

- وشهد شاهد من أهلها.

وفى التحقيق أشرت إلى المقال، وأخذت اقتباسات منه، وقلت بكل ثقة:

- أهل مكة أدرى بشعابها، وإذا كان من أهل الخليج من يرفض هذه الظاهرة، فالأولى أن نرفضها نحن قبلهم.

صرخة «الرميحى» عن بيع الرسائل الجامعية، لا تزال تدور فى البرية، فالبيع على أشده، وزاد الطين بلة، أن من يعدّون الأطروحات المنتحلة أو المسروقة ساعدهم الإنترنت، ثم الذكاء الاصطناعى، على السرقة بلا حساب ولا تحسّب. لكن بعض صرخات الرجل فى مجالات أخرى تلقى بعض الصدى، لاسيما اعتباره الحرية قيمة مركزية لا تفريط فيها، إذ تبدو لديه أشبه بالشمس التى إن حضرت أمدّت كل ما حولها بأسباب للعيش والنمو والتقدّم إلى الأمام، وكذلك فى تمسّكه بالعقلانية، حيث التفكير العلمى ونبذ الخرافة والعشوائية والاتكالية، وفى انطلاقه من «الاجتماع السياسى»، حيث تخصّصه، ليطل على مسارات معرفية أخرى، خصوصاً الإعلام والثقافة والتنمية وعلاقات الأمم، وهو ما تعكسه كتبه ودراساته ومقالاته.