الحقيقة المفزعة
لم أصدق عينىّ حين قرأت ذلك المنشور عبر صفحة تلك السيدة، تعبر فيه مدى سعادتها مع ذلك الرجل، وأنها لم تكن لتختار شخصاً سواه فى حياتها، وأن هذا الرجل «الحقيقى» الذى أسعدها الله بالقرب منه، هو منتهى أملها وأحلامها، لا تسأل الله سوى أن تظل بصحبته حتى ينتهى العمر ويُدفنا معاً.
كلمات حالمة، كتبت بطريقة متقنة، لكنها لم تصبني سوى بالكثير من الذهول والرعب، هل هذه هي نفسها السيدة التي أستمع إلى إهانات زوجها لها بأذني، والتي تخبرني بأنها لا تدرى لماذا يعاملها بتلك الطريقة المهينة باستمرار؟ السيدة التى حظيت برقم قياسى من مرات الخيانة والإهانة والهجر والضرب، أمّ العيال التى تسمع تهديدها بالطلاق عدد مرات أكبر من تلك التى تسمع فيها كلمة «صباح الخير»؟!
لم أتوقف لحظة عن التساؤل: «لماذا؟»، إن كانت مضطرة لتحمُّل حياة بائسة بهذا القدر مع شخص كهذا، هل كانت مضطرة لكتابة كل تلك الكلمات الحالمة عن الشخص ذاته الذى يعلم جميع المحيطين بهما كم يسىء إليها ويتقن إهانتها وقلب الطاولة فى وجهها ليحيل الباطل حقاً والحق باطلاً؟ إنه يجعلها تعتذر عن أخطائه لأنها تجرأت على مواجهته بها، فالمرأة الصالحة -فى عرفه- لا تفضح زوجها ولا تقرّعه بكوارثه، بل تتركه ليتوب وحده إن أراد فى الوقت المناسب وإلا تكون قد خربت بيتها بيدها.
عن أى عيد زواج تتحدث؟ وبأى مناسبة «سعيدة» تحتفل؟ فى الواقع أنا حقاً أرغب فى أن أعرف إلى من توجّه كل هذا الكذب؟ إلى أهلها الذين استقبلوها عدداً غير نهائى من المرات غاضبة، أم إلى نفسها؟ أم إلى جمهور الصديقات العزيزات على صفحته الخاصة اللائى يشبعنه قلوباً وتعليقات أسقطت شعر رأسها فعلياً لفرط الشعور بالغيظ والغضب.
ذكَّرتنى تلك المرأة، بشابة صادفتها مرة فى مكان عملها، وصادف أن كانت فى موقف لا تحسد عليه، كانت تتلقى سيلاً من الإهانات والصراخ وسط زملائها من رئيسها فى العمل، تعاطفت معها كثيراً وتمنيت لو تترك هذا العمل المؤذي، لكنني لاحقاً فغرت فاهي لفرط المفاجأة حين قرأت عبر صفحتها الشخصية رسالة تأثر شديدة برحيل هذا الرجل -انتقل لمكان عمل آخر- حيث وصفته بأنه عظيم لن يجود الزمان بمثله رئيساً لها، يقفز إلى ذهني المزيد من المواقف الشاذة، تلك التي تشبه امرأة أشبعها رجل ضرباً وسط الشارع، وحين يجتمع المارة لإنقاذها تصرخ فيهم: «جوزي ويحق له يأدبنى».
حملت غيظى وغضبى إلى الطبيب النفسى والفنان الدكتور إيهاب هندى، فسألته أن يمنحنى تفسيراً لهذا الانبطاح الإرادى، سألته عن السر وراء كل تلك الكرامات المهدرة طوعاً، والنفوس التى تجيد الانحناء، فمنحنى تفسيراً خفَّف من غيظى وأحال غضبى تعاطفاً، قال لى: «لو أنها كانت تعيش علاقة آمنة توفر لها الحد الأدنى من احتياجاتها، ما اضطرت للكذب، حيث يكذب المرء حين لا يشعر بالأمان، وهى حيلة دفاعية تستخدمها، ليس أمام الناس فقط، ولكن أمام نفسها أيضاً، بأن ثمة شخصاً فى حياتها يؤدى الأدوار المطلوبة، ولو لم يفعل فى الحقيقة، لأنها إذا أظهرت الحقيقة ولو بينها وبين نفسها فسوف يكون ذلك وبالاً عليها، وصدمة ضخمة ليست مستعدة لاحتمالها».
هكذا الأمر إذاً، هو «راكور» يشبه ديكورات الإعلانات، إذ صادفت فى إحدى المرات ورشة تصنع غرفة نوم مبهرة، فاقتربت منها فوجدتها من خشب ردىء جداً، فسألت الرجل عن السر وراء جمال الشكل ورداءة الخامة فأخبرنى بأنها مصنوعة لـ«إعلان» ينتهى الغرض منها بانتهاء الإعلان؛ لذا لا حاجة للمتانة أو الإتقان.
«أنا تمام، أنا معنديش أى مشكلة خالص، أنا مش محتاجة حاجة تانى، أنا علاقتى بتؤدى الغرض حتى لو بالكذب» يواصل الطبيب الماهر حديثه، متخيلاً الحديث الداخلي فى عقل السيدة، بينما يجول فى ذهني تساؤل حول كل هذه الأعداد من «الراكورات» و«الديكورات» التي يصدرها الجميع للجميع، مع تأكيد قوى أن كل شيء على ما يرام، والأمور «زبادي فى الخلاط» بينما الواقع «خلاط» من دون أي أثر للزبادي!
ثمة حقائق مفزعة فى الحياة، وأمور لو حصلت على مسمياتها الحقيقية لسقط أصحابها مغشياً عليهم لفرط وقاحة الواقع وبؤس الأوضاع، يهرب الجميع من الجميع ومن أنفسهم إذا، بحسب الدكتور إيهاب، ليس الجميع بقادر على ممارسة التكشف على مستوى المشاعر، لا يحدث هذا إلا بالوجود فى دائرة أمان فعلى، يكون المرء فيها صادقاً مع نفسه ومع الآخرين داخل العلاقات الآمنة فقط، أما الأوضاع المأساوية فلا تدفع أصحابها إلا إلى مزيد من الكذب والتظاهر لأجل التغطية على الروائح الفاسدة، والقيح المغطى، أو كما قال الحكماء: «الأواني الفارغة تحدث ضجيجاً أكبر».