ملحمة المطاريد

عمار على حسن

عمار على حسن

كاتب صحفي

طالما راودني حلم بأن أكتب عملا روائيا ملحميا. ورغم أن بين النقاد من رأى أن روايتي «جبل الطير» تحمل هذا المنحى، ومن بينهم الناقد الراحل د. جابر عصفور، فإنّ هذا لم يُرضِني، حتى وصلت إلى ما أريد، وصدرت روايتي الجديدة مؤخرا عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة تحت عنوان «ملحمة المطاريد» في تسعمائة صفحة موزّعة على ثلاثة أجزاء.

كنت متخوّفا من أن هذا الحجم، وما يقتضيه من سعر لن يكون هيّنا على القراء في أيامنا هذه، لكن فوجئت بخبر من الدار يقول إنّ توزيع الرواية كان جيدا في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وإن هناك قراءً يفضّلون الروايات كبيرة الحجم، وقد تعجّبت من هذا، لأن الناشرين في مصر، ومع ارتفاع سعر الورق، يوصون الأدباء في السنوات الأخيرة بالروايات صغيرة أو متوسطة الحجم.

بدأ البعض يقرأ الرواية، وتلقيت أسئلة عبر «فيسبوك» عنها، دارت حول فكرتها الرئيسية، فأجبت بأنها تهتم بصراع البشر على الثروة والمكانة، وكذلك حلم العودة الذي يسكن رؤوس وقلوب ونفوس عائلة أُجبرت على ترك قرية متخيلة أسستها وساحت في البلاد، دون أن ينسى الأحفاد وصية الأجداد التي تطالبهم باستعادة ما كان لهم، لتنطلق رحلة مطاردة قاسية في ريف مصر ومدنها وصحاريها، تصور لنا عراك الفلاحين مع فيضان النيل وجفافه.

وأقول لبعض السائلين إنّ الرواية تحمل حكاية ضافية متصلة من مسيرة عائلتين متصارعتين في قرية متخيلة تقع في صعيد مصر، ومنها يمتد تنقل أفراد العائلتين في رحلة مطاردة قاسية من المنيا شمالا وحتى أرمنت جنوبا، وبين جبال هضبة البحر الأحمر والصحراء الغربية الموازية لهذه المساحة في الوادي الخصيب، ثم إلى القاهرة، حين ينتقل بعض الأبناء للدراسة في الأزهر، وآخرون للهروب من العار، أو لبيع المحاصيل وشراء العبيد من سوق الجلابة التي كانت تقع في حي بولاق أبوالعلا على شاطئ النيل.

ومن سألوا عن شخصيات الرواية، قلت لهم إنّها متنوعة بين العمد والمشايخ والخفر والمزارعين والصيادين والمراكبية والنجارين والحدادين والعبيد والخدم والخادمات والتجار والباعة الجائلين والبائعات، ومعهم الأسواق والوكالات التجارية والقيساريات، ويوجد اللصوص والنصابون والغواني والسكارى والمساطيل والعسس والشعراء الشعبيون من رواة السير، وعمال المناجم من مصر والسودان وإثيوبيا، والجند الذين يفعلون ما يُؤمرون، ومنهم أهل الوادي من سكان الريف والحضر وبدو الصحارى، وهناك أهل البلد والأجانب من العثمانيين أو الحبش أو الشركس والروس وغيرهم، وتنتمي الشخصيات بالتناسب إلى الأديان الثلاثة في مصر خلال زمن الملحمة، وهي الإسلام والمسيحية واليهودية، ولذا طالما نجد الشيوخ والقساوسة والأحبار، ومعهم المساجد والكنائس والمعابد، إلى جانب الزاوية المنفتحة على الكل.

وسألني الإعلامي معوض جودة عن مصرية هذه الملحمة، فقلت له إنّها تتشرّب روح مصر، عبر ستة عشر جيلا، تغرف معهم وبهم من الواقع، وتنفخ فيه من الخيال، لتُقدمه في لغة عذبة، تُناسب ما يجب أن تتهيأ له الملاحم الأدبية، ثم تطلق سردا متدفّقا، يجعل القارئ، رغم طول الحكاية، يلهث وراء السطور، وفي الوقت نفسه يهرول خلف أمل يسكن الرؤوس والنفوس، ويلوح دوما أمام العيون إشارة زاهية تدل على الطريق، مهما اشتدت الأحوال، وتراخت الهمم، وتباعدت المسافات، وتتابعت الأزمنة، وضعفت الذاكرة، في بلد يجاهد أهله منذ آلاف السنين، ليبقوه على قيد الحياة.

ولفت انتباه الكاتب والشاعر أحمد سراج إلى أنّ الملحمة هي بالأساس حكاية فلاحي مصر مع فيضان النيل حين يهجم خفيفا أو عفيا، وتنافس وجهاء الريف على الثروة والمكانة، لكن السلاطين والأمراء المتعاقبين، وكذلك قراراتهم وإجراءاتهم وتحكماتهم المتوالية، تبقى في الخلفية السردية باهتة، فالملحمة معنية بتشكيل العائلات الريفية، وفق ما تفعله السلطة، وبأثر ذلك على البسطاء من الأجراء وأصحاب الملكيات الصغيرة جدا وأصحاب الحرف.

في قلب الأحداث هناك خيط ممتد عبر الزمن، إلى جانب الملتزمين والفلاحين، إنّهم المريدون من أتباع الطرق الصوفية، أولئك الذين يتتابعون على سكنى زاوية في القرية، تركها المجذوب الأول، وظلت تنادي عبر القرون ساكنيها بوصفها مكانا لتلطيف الأجواء الملتهبة بالأحقاد، وتبقى منحازة إلى الغلابة، ونقطة التقاء السماء بالأرض، وملجأ السابلة والضائعين، والهاربين من الجوع، وهجوم الفيضان من ذوي الحاجات والمعدمين.

وتطل من بعيد وجوه الفلاحين الأجراء، خلف أكتاف أصحاب الالتزام من كبار الملاك والعمد وأمراء المماليك ثم الحراس وموظفي الحكومة في ما بعد، لترسم لوحة اجتماعية وإنسانية مصرية بامتياز.