وَهْم المستهدف وأكذوبة المنتصر

قالها خطيب الجمعة الماضية بصوت حاسم: «المستهدف هو الإسلام»، وأكمل محذرا: «من يقول.. الهدف مصر، عليه أن يراجع نفسه».. جاء ذلك في سياق تعليقه على الفكرة الشيطانية الداعية إلى تهجير الشعب الفلسطيني من غزة، والصمود المصري والاصطفاف العربي خلف الحق الفلسطيني والذي أجبر الإدارة الأمريكية الجديدة على أن تتراجع خطوة وتمنح المساحة لخطة مصرية تتبلور عربيا كبديل للمشروع الإجرامي اللاإنساني الرامي لاغتصاب آخر ما تبقى من أراضي فلسطين التاريخية.

وحسما لجدلية المستهدف بين الإسلام ومصر، فإنه وفق الخطط الاستعمارية الغربية الأمريكية المعلنة والتي يجري تنفيذها بسواعد إسرائيلية، فإنّ المستهدف الحقيقي والدائم والذي لا مجال للتشكيك فيه، هو ثروات الشرق.. وقد تنوعت أنماط هذه الثروات عبر عصور التاريخ، وظل مشرقنا العربي كنزا يداعب خيال كل فرسان الصليب والمعبد والهيكل، ولن يكون آخرهم أبناء صهيون وحلفاءهم من الترامبيين.

ولن يزيد مصر قيمة أن تكون مستهدفة، فهي «عظيمة يا مصر» يقين راسخ في نفوس كل العرب وإن نطقوا بعكس ذلك أحيانا، وهي بحكم الجغرافيا اليوم تتوسط حلقة من النيران المشتعلة والصراعات الإقليمية المتأججة، وبحكم تاريخ الحضارة هي ثروة بموقعها وتراثها وقوتها البشرية، ومطمع خالد لكل الإمبراطوريات الاستعمارية منذ فجر التاريخ حتى نهايته.

أما الإسلام بطل الأبطال، فهو في مواجهة خالدة ضد الشيطان وأبنائه وأصدقائه وحلفائه منذ أن هبط جبريل على نبينا الأمين، وتجلت حروب الإسلام ومعاركه العسكرية والاجتماعية والسياسية من أجل نشر الرسالة، ويخلد تراثنا القصصي حوادث التاريخ الإسلامي بإبداع كبير، منحنا الفرصة للفهم المتجدد لمسألة استهداف الإسلام منذ فجر الدعوة في مكة والمدينة وصولا إلى صراعات الفضاء الافتراضي.

لكن لماذا يلح إمام مسجدنا في تصدير الاستهداف الديني مستبعدا مصر من حائط التنشين «الصهيوأمريكي»؟، بداية فإنّ التحليل السياسي لخطبة الجمعة لا يدخل تحت باب الكبائر، ومراجعة الإمام فيما يقول ورده عن الخطأ يجوز شرعا، خاصة إذا كان ما يتحدث عنه بعيدا عن تخصصه الفقهي، ويأتي في سياق التحليل السياسي.

وأيضا فإنّ ما سأقوله ليس مقدسا، بل هو مجرد اجتهاد فكري بنيته على الكثير من البحث، تجدد إحياؤه عقب «طوفان الأقصى»، بعد أن أشهر بنيامين نتنياهو «نبوءة أشعياء» التوراتية واستخدمه لحشد العالم إلى جواره في حرب الإبادة، والتي خاضها في غزة ضد الشعب الفلسطيني متسقا مع أفكاره السياسية المتطرفة والتي تأسست عليها دولة الاحتلال، محاولا إحياء فكرة «الحرب الدينية» ليغلف بها مشروع دولته الاستعمارية القائمة على السرقة والسلب واغتصاب حق شعب في الحياة والأمان والاستقرار.

وتصدير المشهد على أنّه معركة بين الإسلام واليهودية، هو أخطر ما واجه الصراع العربي الإسرائيلي، وكان أعظم الهدايا الكبيرة التي منحتها حركة حماس للكيان الصهيوني، واستمرارنا في النهج ذاته يصل بهذا الصراع إلى كارثة إنسانية مستمرة، لأن القتل باسم الدين يزيد شراهة القاتل ويشعل حماسه للمزيد، وهذا ما يفسر حالة التمادي في العدوانية والإفراط فى الجرم ضد الفلسطينيين، فالقاتل الإسرائيلى مشحون بأوهامه الدينية التي تمنحه القوة والقدرة على مزيد من سفك الدماء بلا رحمة، لأنه جرى خداعه بأنه يقتل وفق شريعة الرب.

وليس خفيا على أحد اليوم أن إسرائيل أسهمت فى تعظيم دور تنظيم حماس، لتصبح جماعة وظيفية بعد أن ظهرت من رحم تنظيم «الإخوان المسلمين»، بنفس المنهج والمبادئ والأسلوب، والأخطاء أيضا، وكلاهما، الإخوان وحماس، أحاطتهما اتهامات كثيرة، فيما يتعلق بالعلاقات بالدول الكبرى، وتعددت محطات استغلالهم ضد صالح الشعوب ومن أجل تأجيج الصراعات الداخلية في العديد من دول المنطقة.

ومن الأكاذيب التي يجري ترسيخها أن «حماس» هي المقاومة الفلسطينية، وهذا تضليل مقصود يجعل المساس بهذا التنظيم السياسي العسكري غدرا بالدين وخيانة للقضية، ويجعل كل حديث عن مستقبلها من المحرمات، فقد ضللت الجميع باحتكارها الحرب باسم الإسلام، وتكمل اليوم بالأكذوبة الأهم، بالترويج لفكرة أن قبول إسرائيل لاتفاقية وقف إطلاق النار في غزة بمراحلها الثلاث المعقدة، يمثل نصرا لحماس، وهى أكذوبة تتشابه فى أهدافها مع الأكذوبة الإسرائيلية بالانتصار فى غزة، كلاهما كذب أشر، فكلاهما خاسر للمعركة حتى الآن، فحرب غزة كما تنبأ الرئيس السيسي بنتائجها محذرا، ووصفها بأنها «معركة صفرية»، لهذا كان يناشد العالم بالتدخل لإيقافها.

والترويج للنصر الحمساوي بدأ مبكرا مع الزخم الإعلامي لإحياء ذكرى عام على اندلاع «طوفان الأقصى» في أكتوبر الماضي، ولم يكن تصريحا فرديا بل تكرر من قيادات الحركة في أكثر من مناسبة، ربما يختصره ما ذكره باسم نعيم المتحدث باسم الحركة لمجلة «نيوزويك» والذي عدَّد سلسلة من الانتصارات الاستراتيجية والتكتيكية والسياسية.

وعقب وقف إطلاق النار، ومع كل عملية تسليم للرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى الحركة، كان يتم إخراج المشهد في أجواء احتفالية تأكيدا على ترسيخ كذبة بالنصر، وكأنّ ما يحيط بمنصة التسليم والحشود الملتفة حولها، ليس دمارا شاملا للقطاع وأرقاما قياسية من الشهداء والمصابين، ومشروع تطهير عرقي وتهجير قسري لأصحاب الأرض، كل هذا لا تلمحه «حماس»، التي باتت رقما يستحيل استمراره في معادلة المستقبل لقطاع غزة.

وهذا لا يعني أن نطلب كتابة شهادة وفاة للمقاومة الفلسطينية، التي ستظل تدافع عن القضية ما دام الاحتلال مستمرا في جرائمه رافضا كل الحلول السلمية لذاك الصراع الأزلي، المقاومة حق مشروع، يجب أن يتسق مع حقوق الشعب الفلسطيني لا أن يتورط في إهدارها وضياع القضية.