الفلسطينيون والمقاومة بالكلمة (3)

عمار على حسن

عمار على حسن

كاتب صحفي

باتت فكرة العودة جزءا أصيلا من الثقافة السياسية الفلسطينية، لذا يغني الفلسطينيون في الشتات للرجوع إلى بلادهم، كي تنتهي غربتهم الطويلة، مثل تلك الأغنية التي تقول: «روح الغايب على بلده/ وانجمع شمله على ولده»، أو هذه التي تقول: «يا طير يا غريب يا مروح.. خدني معاك لانوح.. غريب ومسافر ع بلادي.. وأنا غيرك حبيبي ما أنادى».

وبالأغنية الشعبية يرسم الفلسطينيون الحدود الجغرافية لبلدهم، الذي طُرد منه بعضهم إلى الشتات، وهناك من يرزحون تحت الاحتلال في الضفة الغربية وغزة، ويوجد من يعانون من التمييز من الفلسطينيين الذين أُجبروا على حمل الجنسية الإسرائيلية. وفي هذا المضمار تقول هذه الأغنية:

«قلبي يا أربع وديان.. سواقي تقلب ع ميَّة

أولهم يا نهر العوجا.. من بعيد تسمع دويه

ثانيهم يا نهر روبين.. ياما زاروك الزوارة

ثالثهم يا وادي غزة.. ياما زاروك الزوارة».

وعلاوة على الأغاني التي تنتجها قرائح الناس، ومخيلتهم الجمعية، وتردّدها الألسن بشكل عفوي، وتتناسل في الأمكنة، وتمتد عبر السنين، شكل الفلسطينيون فرقا تلتقط بعض هذه الأغاني وتنظمها، أو تُؤلف على منوالها أخرى، لتقوم «تغذية مرتدة» بين ما يبدعه الناس، وما يبدعه الشعراء الشعبيون.

وحسبما أوردت منال محمود في تحقيق صحفي مهم بعنوان «كيف أثرت الأغاني الشعبية في المقاومة الفلسطينية؟» منشور في موقع «باب مصر»، أسس الفلسطينيون الكثير من الفرق الشعبية. ففي نهاية سبعينيات القرن العشرين، تأسست فرقة «العاشقين» تحت إشراف منظمة التحرير الفلسطينية نفسها، وقدّمت أعمالا فنية مهمة حول الوطن والكفاح في سبيل استرداد الأرض السليبة، وتحرير الشعب المحتل. بعدها جاءت فرقة «بيسان» التي تكونت عام 1979، لتُحافظ على التراث الموجود بالغناء للأرض والفدائيين والشهداء.

وفي مطلع الثمانينيات نشأت فرقة «أجراس العودة»، ودارت أغانيها عن السجن والغربة واللجوء والبطولة والحنين للوطن. وقُبيل انتفاضة الحجارة التي اندلعت عام 1987، انطلقت فرقة «العودة»، وجعلت مهمتها توظيف التراث في صناعة الفن المقاوم، ودعوة من في الشتات إلى العودة. وبعد ثلاثة أعوام، وفي يوم الأرض، انطلقت «فرقة القدس»، التي تغنّت بهذه المدينة المقدّسة وأهميتها.

وفي عام 1999 تأسّست فرقة «شهداء جباليا»، التي دعت أغانيها إلى النضال في سبيل تحرير الأرض. ومع انتفاضة الأقصى نشأت فرقتان، الأولى هي فرقة «محمد الدرة»، وهي فرقة مستقلة تُعبئ الجماهير حول المقاومة، وتعرّفهم بالقضية الوطنية. والثانية هي فرقة «الاعتصام» التي رمت أغانيها إلى رفع الروح المعنوية للمنتفضين ضد الاحتلال. وبعد عام تأسّست فرقة «زغاريد الوطن»، لتُعبر عن الهم الوطني بطريقة خاصة. وهناك أيضا فرقة «ناجي العلي»، التي وضعت جهدها الفني في خدمة قضية التحرير.

وقد أورد «ضرار أبوشعير» في كتابه «دليل الأغنية الشعبية الفلسطينية» ثمانين أغنية، تتسم بالتنوع في الأغراض والموضوعات والمجازات والموسيقى والبنية الفنية، لعل أكثرها قوة، سواء على المستوى الفني، أو المعاني التي تحملها عن شعب لن يتنازل عن حقوقه، ولن ينكسر أبدا، مهما كان حجم الألم والتضحيات، تلك الأغنية التي تقول: «سنوا عضامي سنوها سيوف

وعيوني عيوني قنبلة مولوتوف

أنا شعب بدمه يشق الليل

ويصنع من لحمه قنابل

ويقاتل ويظل يقاتل

ومن جرحه يسحب سكين

وبصدر العريان يقاتل

دوريات المحتلين

أنا هذا الشعب اللي ما بهدا

وباستشهاده هزم الخوف

أنا شعب شد الأرض بسنانه من قدم الغاصب

ولا يمكن حقي يضيع وأنا دمي وراه مطالب».

لقد أضاف الشعب الفلسطيني اللون الأحمر إلى أزيائه، علامة على دمه الذي يُراق في سبيل الوطن، وتنطوي الكثير من أساطيره وخرافاته وحكاياته الشعبية على قيم ومعانٍ دالة على مكانة أرضه وهويته وتاريخه من نفسه، لذا كان من الطبيعي أن تأتي أغانيه الشعبية لتصوغ كل هذا في كلمات وألحان، تشكل نوعا من المقاومة المدنية السلمية، وتدعو في الوقت نفسه إلى المقاومة المسلحة وتُلهب حماس القائمين بها وتبرّر مسلكهم، لتبقى جانبا نابضا بحياة الفلسطينيين معبرا عن وجدانهم الكلي، وعقلهم الجمعي.