المفتي في ضيافة صالون «الحداد»

حسين القاضى

حسين القاضى

كاتب صحفي

صالون «الحداد» صالون ثقافي مصري، يضطلع بدور كبير في نشر الفكر التنويري، ويمثل مصدر إشعاع فكرى وثقافي وديني وفني، ويستضيف عددا من القامات المختلفة، ما يزيده ثراءً وتنويرا، وتقوم عليه الدكتورة المثقفة الكاتبة آيات حسين الحداد، عضو مجلس النواب، وأستاذ مساعد القانون الجنائي بالسعودية سابقا، والمحاضرة والكاتبة الصحفية.

كان ضيف آخر صالون سماحة مفتي الجمهورية الأستاذ الدكتور نظير عياد، وأقيم الصالون في رحاب مسجد عمرو بن العاص، ودار النقاش حول الفتوى ودورها في تحصين الأفكار، وأول ما لفت نظري هو حرص فضيلة المفتي على الحضور في موعده، وسمته الجميل، وأسلوبه اللين، الذي يليق بالعلم والعلماء، وهذا يعطي انطباعا إيجابيا، في التأكيد على إعادة الثقة في المؤسسات الدينية، لا سيما أن الجماعات المتطرّفة تحاول هدم الثقة بين الناس وبين مرجعياتهم الدينية، وهي محاولات فاشلة.

وضع المفتي نقاطا محدّدة في تفكيك التطرّف، وصناعة وعي إسلامي يعزّز المعرفة والانتماء، وينشر القيم والتعارُف والتواصل، ويبرز مكارم الشريعة، ورصانة علومها، وإزالة ما علق بها من مفاهيم متطرّفة، وهذا يكون عن طريق تفعيل مناهج الاستنباط المنضبطة الرصينة، ولذلك وضع فضيلته عدة محاور لهذا المعنى، أهمها:

- دور العقل في الإسلام، وكثرة السياقات القرآنية التى تُعلِى من قدره وقيمته، وتوجب العمل به، وتوضّح مدى ارتباط المنهج الإسلامي ارتباطا جوهريا بالعقل، حتى إننا لنسمع كثيرا عبارة: «العقل مَناط التكليف، ومحلُ الفَهم، وبه استنباط الأحكام الشرعية، وبيان مرادِ الشارع».

- إن الإسلام حدَّد للعقل مسارات جوهرية تعزّز مناعتَه ضد الانحراف، بدءا من التفكُّر في الكون، مرورا بفقه النصوص، ووصولا إلى تحرير النفس من التبعيات غير العقلانية، والحذر من الإفراط أو التفريط، والتوجيه الرشيد الخادم لمقاصد الشريعة.

- حذّر فضيلته من تعطيل العقل، وأكد أن تعطيل أي حاسة من الحواس يُعدُّ إفسادا للحكمة التي خلقها الله من أجلها، فيؤدي إلى نقصٍ في الإدراك وتشويهٍ للوعي، لافتا إلى أنه إذا كان تعطيل الحواس البدنية أمرا مرفوضا عقلا وشرعا، فإنّ تعطيل العقل -وهو أرقى أدوات الفهم والإدراك                                                                                                                                                   - يكون أشد خطورة وأعظم ضررا.

- استدل فضيلة المفتي بفقه الخوارج، كنموذج تاريخي يوضّح مدى تأثير الفتوى على العقل والفكر، وكيف أنّ هذا النموذج (الموجود اليوم) دمّر الأمة، وفتتها ونشر الفتوى، ومن ثم فإنّ الفتوى الدينية الواعية العقلانية تُحصِّن المجتمع من فكر الخوارج، ومدخل كل ذلك يكون بالتأسيس على مقاصد الشريعة وتجنّب النظرة التجزيئية، وتوظيف القواعد الفقهية الكلية كضابط منهجي، وتفعيل الاجتهاد الجماعي المؤسسي، المراعي للواقع واختلاف المكان والزمان.

ويمكن القول إننا نحتاج إلى إعلاء قيمة العقل، ونقد الذات، وتنقية التراث تنقية منضبطة لا عشوائية، والتأكيد على دور الفتوى الواعية في ترسيخ هذه القيم، لما للفتوى من تأثير في الفكر والعقل الفردي والجمعي، لأن الفتوى هي الجسر الواصل بين النص الشرعي والواقع الإنساني، فإما تعلو من قيم الإنسانية والوطن والعدالة والاستنارة والتعايش والحرية، وإما تؤدى إلى التكفير والتبديع والتضليل.

وختاما فإن صالون الحداد أتاح الفرصة لنقاش فضيلة المفتي، والاستماع إلى رؤيته، وهو ما يدعونا لأن نكرر الدعوة إلى الحفاظ على مرجعية الإفتاء، لأن الحفاظ عليها نوع من الحفاظ على الوطن، والخطورة الخطورة أن نجعل الطرق الحديثة في تحصيل المعرفة دافعا لهدم المرجعية، مع التأكيد على أن وجود المرجعية لا يلغي العقل والتفكير والمناقشة، غاية الأمر أن المرجعية تُوفر منهجا علميا منضبطا عند التعامل مع القضايا والنوازل، وتحمى من فوضى الفتاوى، واستغلالها سياسيا وأيديولوجيا باسم الدين.