الأمم المسالمة قد تُلوِّح بالسلاح أحيانا

سيعتقد البعض أن وجود قائد «قوي» في دولة عظمى، تحظى بتفوق واضح على المنافسين المفترضين، يمكن أن يكون وسيلة مضمونة لصناعة «السلام»، في ظل الاقتناع بأنّ تكلفة الحروب ستكون قاسية، بحيث لا يمكن تحمُّلها في أجواء عدم توازن القوى.

ولعل ذلك أحد الأسباب المهمة التي تغري قائدا مثل دونالد ترامب بانتهاج أساليب التهديد والوعيد، والتصرف كشرطي مُهاب ومسموع الكلمة.. يأمر، فيُطاع، ليحقق مصالح شخصية أو وطنية، بصرف النظر عن مدى اتساقها مع القوانين والأعراف الدولية والحس الأخلاقي السليم.

وسيكون «السلام» المتحقق بسبب هذه المعادلة بعيدا كل البعد عن معنى السلام الحقيقي، وسيمكن أن نجد له أسماء أخرى أكثر تعبيرا عن طبيعته؛ مثل الاستسلام، أو التنازل، أو تجرُّع كؤوس السم على مضض، سعيا إلى تجنب الحرب، التي نعرف أن تكلفتها، في شتى الأحوال، قاسية.

وفي عالمنا اليوم، لا تجد الحرب الكثير من الأنصار، وسيكون هذا مفهوما بطبيعة الحال؛ إذ تطورت المفاهيم الحقوقية تطورا كبيرا، وتعززت قيم السلام، وأضحى من الصعب إيجاد الذرائع الكافية لتفهُّم منطق الحرب، في ظل ما تم بناؤه من آليات للتفاوض والتسوية وإدراك الحلول الوسط بين الأمم المتصارعة.

إن وجود الحرب كحقيقة في تاريخ المجموعات البشرية والدول لا يعني تمجيدها أو تبنيها كخيار مقبول، كما أنّه لا يُسوِّغها أو يُغري باللجوء إليها، لكنه يعني تفهُّم شروطها ووجودها في حد ذاته، كما أنّه يدفع إلى ضرورة تقصِّي أسبابها وفحص ماهيتها.

يعتقد كثيرون أنّ في الحروب أخطارا عظيمة، وأنّ في تجنبها فطنة وسلامة، وأنّ وقوعها يعني بالضرورة انقطاعا نهائيا عن المفاهيم الإيجابية الحيوية؛ مثل التنمية والسلام والاستقرار والأمن.

وهذا الطرح، وإن كان يبدو منطقيا ومُستساغا وقابلا للبرهنة، فإنّه ليس صحيحا دائما، وثمة ما يدحضه أحيانا.

فالحرب لا تندلع لسمات كامنة في نفوس البشر كما تخلص البحوث العلمية، وباستثناء وجود بعض القادة المهووسين بصورتهم، والدول التي لا تقيم وزنا لعمل المؤسسات، والتي تُتخذ فيها القرارات اعتباطيا، فإنّ الحروب تندلع عادة لمصالح عملية وأسباب مادية أو دفاعا عن حقوق غير قابلة للتصرف.

وثمة أطروحة رائجة تؤطر فهم بعض الجمهور والدول والمؤسسات للحرب؛ وهي أطروحة يمكن تسميتها بـ«العُقد العسكرية التاريخية»، وتلك العُقد هي ببساطة ميراث من تجارب، أو ذكرى تجربة عسكرية مريرة مرت بها دولة ما، وفي تلك التجربة تجرَّعت الدولة مرارة الهزيمة.

ولذلك، فقد بات عليها لاحقا أن تقبل أوضاعا مُختلة، من أجل ألا تكرر تلك العُقدة؛ أي أن تركن إلى «سلام» يعفيها من تكرار تجربة الهزيمة العسكرية الصريحة، بصرف النظر عن قدرتها على صيانة مصالحها العملية في ظل عدم وقوع الحرب، أو استعدادها لخوضها.

ولعديد الدول عُقدها العسكرية التاريخية؛ فالألمان لديهم عقدة من الحربين العالميتين الأولى والثانية، واليابانيون كذلك، لكن الأمريكيين، ورغم أنّ لديهم عُقدتهم العسكرية التاريخية في فيتنام، فإنّ ذلك لم يمنعهم لاحقا من غزو العراق وأفغانستان، وتلك الأخيرة بالذات كانت عقدة عسكرية أيضا للاتحاد السوفييتي السابق، وكان من المفترض أن ترثها روسيا، لكن يبدو أن ذلك لم يحدث.

أما المصريون، فلديهم عقدتهم العسكرية في اليمن، ولاحقا في حرب الخامس من يونيو 1967، وهي عقدة تخطوها بامتياز، وبتضحيات كبيرة، في حرب أكتوبر 1973.

وبسبب هذا الفهم السائد عن أنّ الحرب تمثل قطيعة مع السلام والتنمية والاستقرار والأمن، وبسبب تراكم أثر بعض العُقد العسكرية التاريخية، فإنّ كثيرين يرون ضرورة استبعاد خيار الحرب، بمستوياتها المتعددة، وقواعد اشتباكها المتباينة، وحدّتها المتفاوتة، بشكل قاطع وشامل، مهما كلّف ذلك من أعباء، ومهما سبّب أضرارا للمصالح الوطنية.

والواقع أنّ الحرب لا تمنع تحقيق السلام، وأنّ هذا الأخير لا يعني غياب الحرب بالضرورة، لأن السلام ببساطة أكثر من غياب الحرب، إذ يجب أن ينطوي على ديناميكية معينة، تحفظ للدول التي تتعاقد لإقراره حقوقها ومصالحها الحيوية، وتضمن حالة من التوازن والتكافؤ، وهو أمر لا يتعلق فقط بالالتزامات التعاقدية، ولكنه يتصل أيضا بالمصالح الحيوية العامة، التي يجب أن تُظهر الأطراف المنخرطة في السلام احترامها لها والحرص على إدامتها، حتى في أجواء التنافس والتضاغط.

ونحن اليوم ندرك أنّ «العُقد العسكرية التاريخية» لم تمنع الولايات المتحدة من خوض الحروب، ونشر قواتها في مساحات بعيدة، كما أنّ روسيا لم ترث عقدة الاتحاد السوفيتي السابق في أفغانستان، بدليل أنّها تخوض الحرب اليوم في أوكرانيا، وإذا كان ذلك يتعلق بقوتين عظميين، فإنّه يحدث أيضا في منطقتنا من خلال بعض القوى الإقليمية؛ مثل تركيا وإيران وإسرائيل وغيرها.

وعندما يشعر خصمك، أو منافسك، أنك تستبعد خيار الحرب تماما من أدواتك لصيانة مصالحك والدفاع عن حقوقك، فإنه يُسرف في انتهاكها، ويُمعن في تعظيم خلل التوازن، حتى لو كان هذا الأخير نتاج اتفاقات تعاقدية مُلزمة.

لذلك، فإنّ الأمم المسالمة، والتي ترغب في تجنب أعباء الحرب وتكلفتها المرهقة، قد تجد نفسها أحيانا مضطرة إلى التلويح بالسلاح، والاستعداد لاستخدامه، لحماية حقوقها، وصيانة مصالحها؛ وهو أمر يجب أن يحظى بالتفهُّم والاحترام، حتى لو كانت تكلفته كبيرة.