صراع سياقات.. أشياء تحدث في الشرق الأوسط
بشىء من التجريد دون إخلال، فإنَّ ما يدور على الأرض الفلسطينية العربية اليوم، وعلى مدار أكثر من قرنٍ وربع القرن من الزمان، ليس إلا صراعاً بين سياقين، سياق الصهيونى المحتل القادم من أوروبا ويريد انتزاع أرض الغير بالقوة المسلحة، وسياق الفلسطينى صاحب الأرض الذى يأبى أن يغادر بيته أو يتنازل عن حقوقه التاريخية.
تيودور هرتزل قبل أكثر من مائة عام هو نفسه بنيامين نتنياهو اليوم. الفارق أن هرتزل كان مجرماً بالتخطيط، ونتنياهو مجرم بالتنفيذ!
والرجل الإنجليزى الظالم الذى ساند تمرير المخطط قديماً، هو نفسه الرجل الأمريكى الظالم الذى يحاول تمريره اليوم.
الفارق أن أمريكا اليوم أكثر وقاحة عن أى فترة سابقة. والعربى الذى حاصرته العصابات الصهيونية المدعومة أوروبياً فى بدايات القرن العشرين، هو نفسه العربى الذى تحاصره طائرات ودبابات المحتل المدعوم أمريكياً اليوم. الفارق الوحيد أن هذا العربى قد اعتاد على مشاهدة الموت ولم تعد تفجعه أصوات القنابل.
لكن ليست القضية الفلسطينية هى التجلى الوحيد لصراع السياقات المتضادة بالشرق الأوسط.
صراع آخر يدور بين سياقين متضادين، سياق الذين يؤمنون بالدولة الوطنية الحديثة القائمة على الدستور والمؤسسات المدنية، وسياق الذين يؤمنون بالتنظيمات بديلاً للدولة، والميليشيات المسلحة بديلاً لمؤسسات الحكم، والرايات السود بديلاً للعلم الوطنى.
السياق الأول حداثى، ينتمى إلى لحظة حاضرة، ويتطلع للحظة مستقبلية منشودة. أما السياق الثانى طائفى ينتمى إلى الماضى، ولا يتطلع إلا لإعادة عقارب الزمن ألفاً وأربعمائة سنة إلى الوراء، أو أكثر قليلاً.
هذه معركة سياق أخرى تبدو عبثية جداً، لكنها عاتية لحدٍ خطير.. سقطت فيها دول، وصمدت فيها دول. عانت منها شعوب، ونجت منها شعوب.
ليس هذا كل شىء. حرائق أخرى تندلع فى الشرق الأوسط بسبب أوجه من الصراعات المختلفة، حتى لو لم تكن بدرجة الاشتعال نفسه فى الحالتين السابقتين، لكنها بكل تأكيد ليست أقل خطورة منهما. فهناك صراع بين سياقات تتسابق على النفوذ فى المنطقة، سياسياً واقتصادياً، وسياقات تتسابق على التأثير فى المنطقة، هوية وثقافة.
ولا يمكن قراءة ما يحدث فى الشرق الأوسط دون فهم عميق لكل هذه الصراعات. ولا يمكن التنبؤ بسيناريوهات، مما قد سوف يحدث فى الشرق الأوسط دون إدراك شديد لكل هذه التعقيدات.
يقول كارل ماركس إن الصراع الحقيقى هو صراع مادى، قد يأخذ شكل أفكار. ويقول جورج هيجل إن الصراع الحقيقى هو صراع فكرى، قد يأخذ أشكالاً مادية. وتقول خريطة الشرق الأوسط اليوم إن الصراع الحقيقى هو صراع بين سياقات، سواء كان مادياً أو فكرياً. وكل سياق يعبر عن إرادة، وكل إرادة تعبر عن مادة، وكل مادة تعبر عن فكرة. وليست خريطة الشرق الأوسط المشتعلة إلا جزءاً من خريطة عالم مشتعل أيضاً بصراعات تقودها سياقات أخرى وإرادات مغايرة.
ومصر ليست بعيدة عن هذا أو ذاك، بل هى فى قلب كل تلك الصراعات والتعقيدات، لا تستطيع الانسلاخ منها بحكم الجغرافيا، ولا تستطيع الانسحاب منها بحكم التاريخ. وهى دولة ذات سياق وطنى راسخ، ودولة ذات إرادة وطنية عتيدة. ليس هذا من باب التفاخر ولا التعملق ولا المبالغة الأدبية التى لا تصلح على طاولة الواقع أحياناً، بل حقيقة يشهد بها التاريخ ويقر عليها الحاضر.
ومصر -بفضل رصيدها الاستراتيجى فى التاريخ وبفضل شعبها ومؤسساتها- قادرة بكل ما تملك من أدوات صلبة، وكل ما تملك من أدوات ناعمة، أن تحمى السياق الذى تنطلق منه، وأن تحفظ الإرادة التى تُؤمن بها، رغم الموج العاتى، ورغم كل هؤلاء الأشرار.