«ترامب» والديمقراطية.. والمراجعة المطلوبة

الفيلم اسمه «رئيس الدولة» Head of State، وتم إنتاجه في هوليوود، في العام 2003، وهو من إخراج وتأليف وبطولة الممثل الأمريكي كريس روك، والفيلم يثير الكثير من الأفكار التي تتقاطع مع مستجدات سياسية بالغة الخطورة، تحدث في الولايات المتحدة الأمريكية، ويمتد أثرها بطبيعة الحال إلى العالم أجمع.

فيلم «رئيس الدولة» يتناول قصة رجل أسود يدعى «مايز جيليام» فقد عمله كنائب عمدة لإحدى مناطق العاصمة «واشنطن»، وتخلت عنه صديقته، ليعيش حالة من البؤس وفقدان الاتجاه، إلا أن مقتل مرشح الحزب الذي ينتمى إليه عشية الانتخابات الرئاسية، في حادث طائرة، يغير مجرى حياة هذا الشاب المغمور، عندما يقوم الحزب باختياره لمنافسة مرشح الحزب الآخر، الذي شغل منصب نائب الرئيس الأمريكي سابقاً.

لم يختر الحزب الأول «جيليام» لخوض غمار تلك الانتخابات للفوز بها، وإنّما كان هذا الاختيار تعبيراً عن «مصلحة تكتيكية»، أراد الحزب من خلالها ألا يخرج من الانتخابات صفر اليدين، بعدما أيقن باستحالة أن يعد منافساً قوياً يمتلك حظوظاً للوصول إلى هذا المنصب الخطير. رأت قيادات الحزب الذي ينتمى إليه «جيليام» أنها، بعد الموت المفاجئ لمرشحها صاحب الحظوظ القوية للانتخابات، في حادث الطائرة المشئوم، لم تعد قادرة على طرح مرشح آخر يمتلك الشعبية والقدرات الملائمة لخوض النزال.

ولأن الانتخابات الأمريكية تعرف تنافساً تاريخياً يتواصل بغير انقطاع بين حزبين رئيسين، فإن قيادة حزب «جيليام» استقرت على طرح مرشح يستطيع أن يحصد أصوات الأقلية السوداء، وبعض الأقليات والمهمشين، توطئة لخوض معركة حقيقية في الانتخابات اللاحقة، يكون الحزب قد أحسن الاستعداد لها، وهيأ مرشحاً يمكنه الفوز، عبر البناء على ما يحققه «جيليام» من خلال مشاركته «التكتيكية».

وتتواصل أحداث الفيلم لنجد أن «جيليام»، الذي يشعر بضآلته وصعوبة موقفه، يكتشف أنّه لن يكون رئيساً ناجحاً بطبيعة الحال، خصوصاً عندما تحتدم المنافسة، ويدرك محقاً أنه، ونائبه المقترح (شقيقه «ميتش جيليام»)، بعيدان كل البعد عن دهاليز العملية السياسية، وفاقدان للكثير من المعارف والمهارات اللازمة لتبوؤ المنصبين الخطيرين.

لكن الأحداث تجري لاحقاً عكس التوقعات؛ إذ يتقدم «جيليام» باطراد في استطلاعات الرأي، وتزيد فورة الحماس له، ويستقطب مناصرين بين البيض، لتتزايد حظوظه، وتبدأ الألاعيب السياسية ضده، بعدما بات مرشحاً جدياً يمكنه أن يحصد الفوز.

يعيد «جيليام» ترتيب أوراقه، ويستمع إلى مستشارين أمناء، وعبر عدد من تكنيكات الدعاية الرائجة، يستطيع أن يؤمن الحظوظ الكافية، ليفوز بالرئاسة، بعد مناظرة أمام منافسه، استطاع أن يربحها بعفويته ومنطقه الرافض للسياسات القائمة.

ينتهي فيلم «رئيس الدولة» و«جيليام» في موقع الرئيس، لكنه لا يخبرنا لاحقاً كيف تعامل مع متطلبات المنصب، وكيف استطاع أن يواجه تحديات الحكم، ليظل محافظاً على طابعه الكوميدي الخفيف، من دون أن يرهقنا بأن نتعرف إلى مسارات الرئيس الذى اجتاز لعبة بدت سهلة ليبدأ لعبة ليست سهلة على الإطلاق.

لقد تم استنساخ فيلم «رئيس الدولة» في أعمال فنية كثيرة؛ بعضها كان في أمريكا وغيرها من الدول الأجنبية، وحتى في مصر ظهر فيلم «ظاظا» من بطولة الفنان الكوميدي هاني رمزي، في العام 2006، ليؤكد الإمكانية نفسها، حيث يصل شاب مغمور بلا مؤهلات أو قدرات إلى موقع الرئاسة عبر استخدام تكنيكات دعائية مخلوطة بعفوية وتلقائية أحبها الجمهور الساخط أساساً على أوضاعه والطامح إلى التغيير.

تقودنا المعالجة الواردة في فيلم «رئيس الدولة»، وغيره من الأعمال التي استخدمت الفكرة نفسها، إلى حقيقة ثبت لاحقاً أنها لا تقبل الدحض؛ ومفادها بأنّه من الممكن، عبر استخدام آليات الديمقراطية بشكلها الراهن، أن ينجح غير المؤهل، وغير اللائق، وغير المتوقع، في الوصول عبرها إلى سدة الحكم، استناداً إلى النجاح في توجيه عقل الجمهور والتلاعب بسلطته، واعتماداً على إخفاقات طبقة الحكم التقليدية.

ما الذي يجعلنا واثقين من نجاعة هذا الطرح؟ عشرات الأمثلة، التي تبدأ من نجاح «هتلر» في الفوز بالاستحقاقات الانتخابية التي جرت بنزاهة في ألمانيا في ثلاثينات القرن الماضي، مروراً بنجاح «الإخوان» في الوصول إلى سدة الرئاسة والهيمنة على «البرلمان» في مصر في مطلع العقد الماضي، وأخيراً، وليس آخراً، إذا استعرضنا الطريقة التي وصل بها دونالد ترامب إلى منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية مرتين.

ومنذ الاستقرار المطمئن على أن الديمقراطية أفضل نمط لحكم الشعوب، باعتبار أنها تمنح سلطة الحكم للقادة استناداً إلى تفويض حقيقي من الجمهور، لم تواجه الديمقراطية، كمفهوم وممارسة، أزمة كالتي تواجهها اليوم.

فقد فاز «ترامب» بالرئاسة الأمريكية مرتين، في وقت واجه فيه مرشحين ذوي حظوظ مُعتبرة، بوصفهم أعضاء في الحزب الديمقراطي العتيد، أو لكونهم أعضاء في الطبقة السياسية الفاعلة في البلاد لعقود، وبخبرات مُبرهنة، سواء عبر العمل الوزاري، كما هي حالة هيلاري كلينتون التي خسرت الانتخابات في 2016 أمام «ترامب»، أو العمل كنائب لرئيس الدولة، كما هي حالة كامالا هاريس، التي خسرت الانتخابات الأخيرة أمام المرشح نفسه.

وهذا الأمر بالذات، قد يقود العالم إلى مراجعة ضرورية لفكرة الديمقراطية وآليات عملها، خصوصاً في ضوء الصعود المُطرد لدور «السوشيال ميديا»، وازدهار النزعات اليمينية، وهو الأمر الذى ستكون له تداعيات أخرى خطيرة.