الشخصية المصرية (13).. بين المرونة والمداهنة والنفاق

من مميزات الشخصية المصرية المرونة، ممكن أن تكون حسنة وممكن أن تكون سيئة، للمرونة شقان أو وجهان: وجه يتمثل فى المقاومة والبقاء، وهذا مرصود ومثبت وموجود وظاهر، فالمصري بمرونته يبقى محافظاً على حضوره وشخصيته رغم دخول حضارات وألوان ولهجات ومجتمعات وثقافات على مدى وجوده.

وكلها تهدد حضوره ووجوده، لكنه بالمرونة يستطيع المحافظة على صبغته الخاصة، بالمرونة ينزاح الغاشم والفاسد والحاسد والكاره والمغتصب والفاجر، بالمرونة يبقى المصرى بملامحه ويغيب وينحدر ويتبخر المعتدى، كذلك للمرونة وجه آخر، أحياناً تجنح إلى المداهنة، وأحياناً تتطرف كثيراً نحو النفاق، نعم المرونة فى ميلها تنجرف نحو مداهنة القوى، تجد المصرى فى أحوال كثيرة غالباً يكون فيها ضعيفاً يعانى من فقر فى الأحوال، يداهن المثقف ليُخفى حقائق ويخفى علوماً ويخفى معارف.

تداهن الشخصية المصرية من يبطش بها، تُظهر له عكس ما فى جوفها، حدث هذا مع الهكسوس عندما حكموا مصر، وحدثت المداهنة وقت الاحتلال التركى لمصر، وحدثت وقت الاحتلال الإنجليزى، وظهر النفاق فى كثير من الأوقات، أيام الاحتلال الرومانى، وأيام ولايات حكامها تبطش وتقتل، حدث وقت الشدة المستنصرية، حدث النفاق المتبادل، أيام الاحتلال الفرنسى، وحدث وقت محمد على باشا، وفى كثير من أوقات مصر الخديوية، وحدث النفاق فى عصر عبدالناصر.

وتجلى وقت هزيمة 67، حيث ظهر النفاق الإعلامى الذى بدّل الهزيمة إلى انتصار ثم إلى نكسة، وحدث وقت السادات بعد انتصار أكتوبر العظيم، الانتصار الذى أعاد الهيبة وجعل المصرى يعود بعزة إلى المرونة، لكنه وقت حسنى مبارك توقف كل شىء، الثبات معناه عدم التأخر، ومعناه أيضاً عدم التقدم، ومعناه ظهور المداهنة، ظهر المثقف المداهن والإعلامى المنافق والفنان الكاذب، وهكذا تتأرجح المرونة بين المداهنة والنفاق، بين الإفلات والانسلاخ، هذه المرونة التى يحارب بها المصرى البسيط ويقاوم الصعاب ليبقى.

المرونة تُتوارث، وتتأرجح كفتا المرونة بين المداهنة والنفاق، ووسط هذا المثلث الرهيب يغرق كل من يريد النيل من الشخصية المصرية، يغرق الفاجر والفاسد والمعتدى، فى مثلث الصبر مثلث المرونة، هذا المثلث اختراع مصرى أبدع فيه، وتجلى الفلاح المصرى ليبقى مثلث رأس حربته المرونة وقاعدته المداهنة والنفاق، من دخل هذا المثلث عُذب وتاه وهُزم وسُلب.

تجد المثلث المصرى فى كل عصر وكل ابتلاء وكل نصر وكل حضارة وكل صعود وكل سقوط، كلما تعمقت فى دهاليز الشخصية المصرية، تجد المثلث مسيطراً فى وضوح، تستخدمه الزوجة فى بيتها، ويستخدمه الموظف فى ديوانه، ويجيده الصنايعى والحرفى والعامل، واتُهم به الكاتب منذ المصرى القديم، فهو أحياناً يرسم وينقش على الجدران فى المعابد هذا المثلث.

كتب المصرى القديم بمرونة وعبقرية ومعرفة، كتب فى البرديات، كتب العلم والنظريات والحقائق، لكن معظمها حُرق (حريق مكتبة الإسكندرية بعد الإسكندر الأكبر)، وداهن الكاتب المصرى ونافق عندما بدّل الأسماء فى الخراطيش والجدران، حتى تعامُل الفلاح مع أرضه، يعاملها بالمثلث المصرى السرى، تجده وقت الإقطاع يداهن حتى يزرع كمستأجر.

ثم يأتى يبور أرضه حتى يبنى عليها فيستخدم النفاق، الطالب مع أستاذه، يستخدم المثلث، بين المرونة والمهادنة والنفاق، يظهر المثلث مع الأدنى للأعلى، الموظف للمدير، العامل للمقاول، البائع للزبون والفقير للغنى، تجد المثلث فى حواديت السمر وفى القصص والروايات، تجد مثلث المرونة والمداهنة والنفاق، فى الأشعار والأغانى، تجده فى المسلسلات والأفلام، تجده فى التعامل اليومى مع تفاصيل الحياة، فى الشوارع فى الحارات، تجد المرونة والمداهنة والنفاق فى المشاجرات، فى النزاعات بين الناس لأخذ الحقوق، فى المباريات، فى تشجيع الجماهير لفرقها للاعبين، المثلث العجيب تجده فى جمهور الألتراس وفى الميادين والصور، فى التعامل مع النجوم تجد المداهنة والنفاق، النجم نفسه يعامل جمهوره بنفاق ومداهنة، إنه المثلث المنقذ وهو المثلث المدان.

المرونة والنفاق والمداهنة تحفظ للشخصية صبغتها ولكن تجعل فرص التهجم عليها بالسلب كثيرة، والحمد لله أن جعل المرونة فى ملامح الشخصية المصرية أكثر وغالبة على النفاق، لذلك تجد الأكثرية من العلماء وأصحاب المعارف فى خصالهم المرونة المرتبطة بحفظ المقام والتمسك بالقيم.. اللهم احفظ مصر، اللهم اجعل المرونة طابع الشخصية المصرية يحميها من الانحدار نحو النفاق.. اللهم فاشهد.