«الوطن» فى «قطار المفاجآت» : «مش مهم رايحين فين»

كتب: محمد عزت

«الوطن» فى «قطار المفاجآت» : «مش مهم رايحين فين»

«الوطن» فى «قطار المفاجآت» : «مش مهم رايحين فين»

قبل أن تدق الساعة معلنة السابعة بمحطة مصر (رمسيس)، كانت ابتسامات كثيرة تعلو وجوه الناس بالداخل وسط نغمات عدد من الأغانى الوطنية الحماسية التى كانت تذاع داخل المحطة، وعلى امتداد رصيف 4 امتد طابور طويل فى انتظار «قطار المفاجآت» الذى أعلن المهندس هانى ضاحى، وزير النقل، توفيره فى يوم افتتاح القناة، ولأول مرة يحمل الناس حقائبهم ولا يدرون إلى أين يتوجهون ولا إلى أين يأخذهم القطار، ويبادر أحدهم فيقول ضاحكاً: «السواق نفسه مش عارف رايح فين لحد دلوقتى».
حقائب مختلفة الأحجام بنية اللون وسوداء يحملها الدكتور أحمد محرم، 46 سنة، وزوجته «رانيا» ويلهثان ليلحقا بالقطار قبل مغادرته وما إن تطأ قدما زوجته القطار المكيف ذا الدرجتين الأولى والثانية، تمد إليه يدها لتساعده حتى يتنفسا الصعداء، وبملامح هادئة وهو يمسح عنه حبات العرق من أثر الجرى بعد أن نجح أخيراً فى أن يظفر بمقعد لزوجته تنازل عنه أحد الشبان، يقول: «مصر كلها بتفرح النهارده، وأنا وزوجتى قررنا ننزل ونقضى اليوم وسط الناس، النهارده عيد ولا أى عيد هتتكلم عنه الأجيال الجاية، اليوم عيد افتتاح القنال التانية، لذلك بأعتبر نفسى محظوظ أنى بأشهد اليوم ده»، يتمنى «محرم» أن تدور عقارب الزمن به للوراء ليرى الخديو إسماعيل وهو يعلن افتتاح القناة التى شقها المصريون بدمائهم وعرقهم، كما يتمنى أن يتمكن من رصد وتسجيل «لحظة الزهو والانتصار» كما سماها فى عيون الخديو، ويرى الإصرار والتحدى فى قسمات الرئيس جمال عبدالناصر وهو يعلن عن قراره بتأميم القناة عام 1956. ويضيف «محرم»: «أنا مغرم بالانتصارات، وما بحبش الإخفاقات والفشل طول حياتى وبعتبر اللحظات دى من اللحظات الفريدة اللى بيكتب فيها التاريخ»، لم يكن الدكتور «محرم» ولا زوجته يعرفان وجهة القطار النهائية وأحبا أن يريا بنفسيهما ما يخبئه من مفاجآت: «إن شاء الله المفاجآت هتهل على البلد دى من هنا ورايح ونتمنى إن المفاجآت والأعياد والمشاريع تيجى ورا بعضها»، يقول «محرم» إنه سمع عن القطار من التليفزيون، ورغم أنه وأسرته كانوا عائدين للتو من مرسى مطروح، فإنهم رفضوا الاستراحة قبيل ركوب القطار: «نرتاح إزاى وطول المدة اللى فاتت الناس ما كانتش بتنام ولا بترتاح وشغالين بإيديهم وأسنانهم عشان يسلموا المشروع فى الموعد المناسب بعد سنة من بدئه»، وبلهجة مؤكدة يضيف: «بأقول لك دى لحظات بنكتب فيها التاريخ ولازم على الأقل أكون شاهد».
يقطع الحديث أحد الركاب: «يا ترى هتبقى فيه مفاجأة غير أنهم يركبونا مجاناً فى الزحمة دى»، فيرد الدكتور «محرم» مازحاً: «لا هيوزعوا بيتزات وعصاير وكانزات وانت الصادق»، ثم يعود لجديته السابقة ويقول: «لو سألتنى أنت ازاى تركب فى قطر مش عارف رايح فين هقول لك أنا بمتثل لرغبة الرئيس السيسى زى ما هو امتثل لرغبتنا قبل كده فى 30 يونيو ولما استدعيناه للرئاسة أو ساعة ما أدينا له تفويض لمحاربة الإرهاب، ودى أول حاجة، تانى حاجة أنا مؤمن بصدق السيسى وواثق فيه حتى لو هسلم له رقبتى وأنا مش أقل وطنية من أى حد»، ويضيف فى زهو: «أنا اشتركت بـ13 ألف جنيه اشتريت بيهم شهادات استثمار مساعدة منى للمشروع وكان بودى اشترك بأكتر من كده».
بعد عدة دقائق يتدخل رجل آخر، يتبادل مع «محرم» حواراً متعمقاً حول تاريخ القناة قبل أن تصبح مشروعاً عينياً فى عهد الدولة الإسلامية مروراً بقصة عرابى مع هدم القناة خوفاً من أن يستخدمها الاحتلال الانجليزى، ومحاولة ديليسبس خداعه وإقناعه بأنهم لن يسمحوا بمرور الإنجليز بالقناة، يشير الدكتور إلى محدّثه بأن يستزيد عن تاريخ القناة ويقرأ لابن تغرى بردى الذى تناول جزءاً عن تاريخ القناة فى كتابه «النجوم الزاهرة»، زوجة الرجل هى أيضاً لم تخل من علم وثقافة، قالت إن وجهة القطار ليست بالشىء المهم، والمهم عندها أن ترى أعين الناس «وهيا فرحانة»، مشيرة إلى أنه إذا كانت الإسكندرية عروساً للبحر المتوسط، فإنها تقترح أن تكون الإسماعيلية «عروساً للقنال» وأن تطلق «أم القنال» على السويس، لأن السويس كانت تسمى قديماً مدينة القلزم والبحر الأحمر تسمى ببحر القلزم.
يستغرق الدكتور فى أحاديث عن أدوار البطولة والزعماء والسياسة وأحوال الناس، ويلتف حوله جمع من الناس يعلقون أعينهم عليه وهم ينصتون بشغف بادٍ. يقاطعه أحد المستمعين فى معرض الحديث عن الأمل فيقول: «جينات الشعب المصرى تقدر تستوعب كل شعوب العالم وتحولهم لمصريين فى الروح الحلوة وحب الحياة والأمل»، فتهتز الرؤوس مؤكدة وهم يرهفون السمع وينخرطون فى حديث مطول عن الرئيس السيسى.
على بعد عدة خطوات، يقف إبراهيم محمد أو أبوفدائى، 66 سنة، يقول إنه شارك فى حرب أكتوبر 1973، يرفع صوته: «يا ريت القطر يطلع على الإسماعيلية، إحنا كل 200 سنة ما بنحقق إنجاز كبير والناس كلها فرحانة لأننا بقى لينا وزن عند العالم والأمريكان عملوا لنا حساب وبعتوا لنا 4 طيارات إمبارح»، يتفاخر أبوفدائى وبصوتٍ عالٍ بأنه قابل السادات شخصياً: «معايا نوط شجاعة دهب وأنا سميت ابنى الأول فدائى تيمناً بالاسم اللى قالهولى السادات لما كنت هتجوز سنة 73 ومعرفتش فقالى هتتجوز إن شاء الله وهتخلف ولد بس سميه فدائى».
يصل القطار إلى طنطا فيتأكد الركاب أنهم فى طريقهم للإسكندرية، لم تعد الرحلة مفاجأة، داخل القطار يقف محمد أحمد، طالب جامعى، بالممر لأنه لم يجد مقعداً شاغراً، ويقول: «انتهزت الفرصة وقُلت أنزل أفرح مع الناس وأهو بالمرة أطلع فسحة.. أى نعم مش عارف لفين بس كفاية انى أبقى وسط الناس»، لم يكن يعلم بعد ركوبه القطار أنه ذاهب للإسكندرية: «اعتقدت أن القطر هيطلع يا إما للسويس يا إما للإسماعيلية يا إما للإسكندرية عشان أزور المكتبة وأحضر حفلة فرقة جدل هناك وبالمرة أنزل البحر».


مواضيع متعلقة