عنده فكر!!
«الراجل ده عيان، عنده فكر والعياذ بالله»!!، أول مرة سمعت هذه الجملة تعجبت واندهشت من السياق الغريب الذي يُتهم فيه الإنسان بالمرض لمجرد أنه يفكر! وبالطبع يقصدون المرض النفسي.
المهم حاولت أن أفهم جذور المسألة، فبحثت في الحضارات المختلفة عن ارتباط الفكر بالمرض، وجدت في بعض المجتمعات القديمة أنّ التفكير الزائد أو الفلسفة المفرطة تُعتبر أحيانا خطرة أو غير عملية، خاصة إذا كانت تتعارض مع الأعراف الدينية أو السياسية.
فى اليونان القديمة كان التفكير والفلسفة يُنظر إليهما بإيجابية، وكان الفلاسفة مثل سقراط وأفلاطون يدرسون طبيعة الفكر نفسه. ومع ذلك، كان سقراط نفسه ضحية لهذا، حيث حُكم عليه بالإعدام بتهمة «إفساد عقول الشباب» بسبب تشجيعه على التفكير النقدي، وفي العصور الوسطى الأوروبية، في ظل سيطرة الكنيسة، كان بعض أنواع التفكير، خصوصا النقدي أو الفلسفي الذي يتعارض مع التعاليم الدينية، يُعتبر هرطقة وقد يؤدي إلى محاكم التفتيش والعقوبات.
في الحضارات الإسلامية في العصر الذهبي تم تقدير الفكر الفلسفي والعلمي بشدة، وكان العلماء مثل الفارابي وابن سينا يدرسون العقل والروح، ولكن لاحقا، مع صعود التيارات التقليدية، وُجهت انتقادات لبعض الفلاسفة واعتُبر تفكيرهم خطيرا في بعض الحالات، بل تم تكفيرهم. أما في بعض الثقافات القديمة، فقد كان يُنظر إلى الأشخاص الذين يفكرون بعمق أو يتأملون كثيرا على أنّهم غريبو الأطوار أو حتى ممسوسون، خاصة إذا انعزلوا عن المجتمع.
في بعض الحالات، كان الإفراط في التفكير مرتبطا بأمراض مثل الوسواس القهري أو القلق، لكن لم يكن هناك فهم علمي لهذه الحالات كما هو اليوم، فكان يُنظر إلى هذه الحالات على أنّها اضطرابات روحية أو حتى «مس من الجن».
لكن ما هي بداية الفكر عند الإنسان القديم وارتباطه بتطور المخ؟ تطوّر الفكر البشري مرتبط بشكل وثيق بتطور الدماغ عبر ملايين السنين. مر الدماغ البشري بمراحل متعددة حتى وصل إلى شكله الحالي، وكان لكل مرحلة تأثير على طريقة التفكير والسلوك.
أكثر من 3 ملايين سنة مضت: ظهر عند أسلاف البشر (مثل الأسترالوبيثكس) دماغ صغير بحجم 400-500 سم³، لكنه مكّنهم من استخدام الأدوات البسيطة.
منذ 2 مليون سنة: ظهر الإنسان الماهر (Homo habilis) بدماغ أكبر (600-750 سم³) وقدر على صنع أدوات حجرية أكثر تطورا.
منذ 1.8 مليون سنة: بدأ الإنسان المنتصب (Homo erectus) بتطوير دماغ أكبر (900-1100 سم³) وظهرت لديه القدرة على التفكير الاستراتيجى، مثل إشعال النار والصيد الجماعي.
منذ 300 ألف سنة: تطور دماغ الإنسان العاقل (Homo sapiens) إلى حجمه الحديث (1200-1400 سم³)، ما أدى إلى ظهور اللغة والفنون والوعي الذاتي والتخطيط المستقبلي.
الفكر عند الإنسان لم يظهر فجأة، بل تطوّر بشكل تدريجى مع تطور قدرات الدماغ. يمكننا تحديد بعض المراحل الأساسية لهذا التطور:
1- التفكير الغريزي (أكثر من 3 ملايين سنة مضت)
التفكير كان بسيطا وقائما على البقاء (الهرب من المفترسات، البحث عن الطعام).
استخدام الأدوات الحجرية البدائية.
2- التفكير الرمزي والإبداعي (منذ 300 ألف سنة)
بدأ الإنسان في استخدام اللغة البدائية والإشارات للتواصل.
تطوير الأدوات المعقدة مثل الرماح والفؤوس.
ظهور الشعائر الدينية والدفن، ما يدل على تطور التفكير الرمزي والاعتقاد بالحياة بعد الموت.
3- ظهور الفكر المعقد والمجتمعي (منذ 100 ألف سنة)
تطور التخطيط المستقبلي والتعاون في الصيد والزراعة.
نشوء الفن (كالكهوف المرسومة في أوروبا).
تطور اللغة بشكل أكثر تعقيدا، ما ساعد في نقل المعرفة بين الأجيال.
مع ازدياد حجم الدماغ، وخاصة الفص الجبهي (المسؤول عن التخطيط واتخاذ القرار)، أصبح الإنسان قادرا على:
التفكير التجريدي: مثل تطوير الرياضيات والفلسفة.
الإبداع: كما في الرسم والنحت والموسيقى.
حل المشكلات: كابتكار أدوات جديدة والتكيف مع البيئات المختلفة.
التخطيط المستقبلي: مثل تخزين الطعام لفصل الشتاء أو بناء المساكن.
إذن التفكير علاج وليس مرضا.