التفكير جنب الصندوق
بالخطأ، تصفحت كتاباً يعتقد صاحبه أنه يقدم الفرق بين نمطى تفكير، يقول عن الأول إنه «جوه الصندوق» وبالتالى يصف الثانى بأنه «بره الصندوق»، صحيح أن محتوى الكتاب لم يكن جاذباً ولا مبهراً ولا محفزاً على الاستمرار فيه، لكنه فضول الوصول إلى الخاتمة، حتى يحصل على اللقب باقتدار، إذ إن صاحبه أو مترجمه، أياً ما كان المسمى الذى يفضله، أستاذ ورئيس قسم فى «بيع الهوا».
مجرد تصفح الكتاب أوقعنى بتقنيات الذكاء الاصطناعى رهينة لعشرات الروابط والكتب والفيديوهات والصفحات التى تعلم روادها الفرق بين نمطى التفكير ومتى نلجأ للصندوق ومتى نخرج عنه، بل إن بعضهم «وسعت منه» فقرر أن يصنف تجارب الدول وإنجازاتها وتحدياتها أو إخفاقاتها كمن يصنف الطماطم، هذه جوه الصندوق وهذه بره الصندوق، فى حين أنه أو أنها لا يزيدون فى سوق الكتاب عن «صندوق» بطلة رائعة لينين الرملى «بخيت وعديلة» بكل أجزائه.
وعليه.. لا أستغرب أن أجد نظرية جديدة للتفكير جنب الصندوق، ولمَ لا؟، من المؤكد أن أحدهم سيظهر مدعياً أنه أولى من هؤلاء لتقديم نظرية جديدة فى التفكير، وفى الغالب ستكون النظرية الجديدة محوراً لكتاب أو رواية أو حتى مقال رأى، قد تفيد من يقرأها، إذ إنه يمنح من يطبق النظرية ميزة عبقرية، لم تتسنَّ للقابعين داخل الصندوق بنظرياتهم التقليدية، فصندوقهم يقيد حركتهم ويكبح جماح خيالهم وانطلاقهم، ولم تتسنَّ أيضاً للواقفين بره الصندوق، والذين لم يكتشفوه بعد، وكل محاولات الوصول إليه أو التأثير فيه تظل خارجة عن مواصفاته، بعيدة عن واقعه، محلقة فى خيال إذا نزل على الأرض قد يهد ما عليها.. إذن لا حل سوى تجربة النظرية الجديدة فى «التفكير جنب الصندوق».. بل إننى أرى من موقعى هذا تلك النقاشات التى ستنطلق حول النظرية الجديدة، قد يسخر أحدهم من الطرح، فيرد عليه صاحب الكتاب والنظرية بطعن مماثل فى نتاجه، لنكتشف أن مجتمعاً كاملاً من المثقفين وهواة القراءة وقدراً لا بأس به من الباحثين وقع أسيراً لثلاث نظريات عن الصندوق وطرق التفكير «جواه وبراه وجنبه»، وهى المأساة التى تنتظر من يرصدها فى كتاب رابع.. وهكذا تستمر الدوامة.
أرى صاحب الكتاب والنظرية وهو جالس فى وضع الزهو والخيلاء، وحوله عشرات الميكروفونات لتناقشه فى الصندوق، وقد يفرد له صفحات وأحاديث مطولة عن رحلته فى اكتشاف نظرية «جنب الصندوق»، أتخيل نفسى أسمعه وهو يشكر الله الذى منَّ عليه بنعمة التفكير، أو وهو يشكر والده ووالدته اللذين قذفا بعبقريته إلى الحياة، ولا بأس من توجيه عبارات التوبيخ والتلقيح على كل من حاربه يوماً ما ولسان حاله يردد دعاء «رد كيدهم فى نحورهم».. أرى كل هذا وأتخيله كمن يروى مناماً أو كابوساً هاجمه فى صحوه، قبل أن تكتمل المأساة بأن يعلن صاحب النظرية أن رائعته موجودة فى معرض الكتاب، لدى دار نشر عملاقة، رأت فى نظريته سلعة تريد تقديمها لمن يريد.. فالكل يتاجر بالصندوق حتى يحصل على كنزه الدفين.
كل ما سبق مجرد خيال وحديث نفس لا تريد سوى أن يصل للصندوق من يستحقه، عشرات المطبوعات ومئات المؤلفات، أسماء لم نسمع عنها أو لها فى «طبق اليوم»، وإذا قاومنا هذا الإحساس ومنحنا الفرصة، نجد الغث، حروف متراصة فى ركاكة لم يسبق لها مثيل، وخواء معرفى وإدراكى لأصحابها ينم عن نظرية «الفراخ البيضاء» بهرموناتها المخلقة التى تقتل هرموناتنا الأصلية، وتقتل معها قدرتنا على التكاثر.. نعم، نحن نموت مع كل نص بلا معنى، نموت مع كل ادعاء بمعرفة ندفع ثمنه من أجيال قد تعتبر هذه الظواهر هى الأصل، أتذكر يوم أن كتبت منشوراً عبر صفحتى على «فيس بوك» أعيب الظاهرة، وأرجع الحل إلى الاستزادة من القرآن بلسانه العربى المبين ومنه إلى خيرات الأدب العربى إن لم يكن للعميد فتكون للأديب.. حينها هالنى أن سألنى زميل صحفى -للأسف أنه زميل وصحفى بالفعل-، قال لى جملة لن أنساها: العميد وعارفينه «قاصداً زميلاً كفئاً يحمل لقب العميد»، من تقصدين بالأديب؟.. أتذكر أننى لم أرد عليه، وأن كلماتى هنا هى أبلغ رد.
لا أود أكثر من بيت خبرة، يتولى فحص الإصدارات المقدمة فى معرض الكتاب، إنه ليس معرضاً للبيع والشراء، لكنه لمنح المعرفة وتنظيم الإدراك، وتعلم كيف نقرأ ومتى نقرأ ولمن نقرأ.. فالكتاب الذى تشتريه هو رغبة، والكتاب الذى يفرض عليك هو احتياج.