«كلاسيكو» الذكاء الاصطناعي يشتعل.. فمن الخاسر؟
يستعير عنوان هذا المقال مصطلح «كلاسيكو» من عالم كرة القدم، ولمن لا يعرف، فهذا المصطلح القادم من اللغة الإسبانية، يعني «مباراة مثيرة بين فريقين كبيرين لديهما تاريخ من المنافسة الضارية»، كما هو الحال مثلا في مباريات ريال مدريد ضد برشلونة، أو ليفربول ضد مانشستر يونايتد.
ورغم أنّ الذكاء الاصطناعي لا ينتمي لعالم الرياضة؛ فإنّ النزعة التنافسية بين الشركات العاملة في مجالات تطويره، تسوغ استخدام هذا المصطلح، ولأن هذا الأخير يُعني بالتنافس بين فريقين بحظوظ متقاربة، فإنّ الفريقين هنا هما الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
تنخرط الولايات المتحدة والصين في صراع دولي بكل تأكيد؛ وهو صراع على الموارد والمكانة والنفوذ والثروة، وفي أحد جوانبه المثيرة يبرز التنافس التكنولوجي بكل ضراوته.
ولذلك، فلم يكن مستغربا أن تلجأ الولايات المتحدة إلى فرض قيود على تصدير أشباه الموصلات إلى الصين في العام 2021، ولم يكن مستغربا أيضا أن يلجأ الرئيس السابق جو بايدن إلى إصدار قانون يخير مالكى موقع «التواصل الاجتماعي» الشهير «تيك توك» في الولايات المتحدة، بين حظره، أو بيعه لشركة أمريكية، عشية مغادرته منصبه، بعدما بات تأثير هذا التطبيق واضحا وكبيرا، ببلوغ عدد مستخدميه أكثر من 170 مليون مستخدم في البلاد.
كان هذا أحد فصول ذلك «الكلاسيكو»، الذي انطلق منذ سنوات مع الصعود الصيني المثير، ولم يعرف أحد متى سينتهي؛ إذ هي مباراة متعددة الأشواط، وستحفل بالكثير من الأهداف، والتصديات، وتكنيكات اللعب المُستحدثة، بينما تمتد ساحتها لتشمل العالم بأسره.
ينطوى الذكاء الاصطناعي على أهمية بالغة لحاضر العالم ومستقبله، وبينما تتجاوز الاستثمارات والقيم السوقية للشركات العاملة فيه تريليونات الدولارات، ويدخل في شتى مناحي الحياة، فقد بات أيضا إحدى أدوات القوى الشاملة، التي يمكن من خلالها التأثير في حسم الصراعات الدولية، وتعيين حصص النفوذ والمكانة والأرباح.
ولأنه على هذا النحو الكبير من الأهمية والخطورة، فلم يكن مستغربا أن يكون ليانج وينفنج، العقل المدبر والرئيس التنفيذي للشركة التي أنتجت أداة الذكاء الاصطناعي الصينية الواعدة «ديب سيك»، هو الرئيس الوحيد لإحدى الشركات التكنولوجية الذي التقى رئيس وزراء الصين، في 20 يناير الماضي.
وعلى الجانب الآخر، فلم يكن مستغربا أيضا أن يلتقي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالرئيس التنفيذي لشركة «إنفيديا» الأمريكية، المتخصصة في صناعة الرقائق الإلكترونية، لبحث المخاوف الناشئة عن البداية المذهلة لأداة «ديب سيك» الصينية، والتي بسببها حققت الشركة الأمريكية خسائر بلغت 600 مليار دولار من قيمتها السوقية، يوم الاثنين الماضي، وهو أكبر رقم تخسره شركة في تاريخ البورصة الأمريكية في يوم واحد.
يعني هذا أنّ القيادة العليا في كل من الصين والولايات المتحدة تدرك أهمية هذا الميدان، وتبحث مع الفاعلين الأساسيين فيه كيفية تعظيم فرصهم للفوز بهذا «الكلاسيكو» المثير.
سيبحث الصينيون عن طريقة تعزز أداة «ديب سيك»، وتوفر مدخلات لتطويره في ظل القيود الأمريكية، سعيا إلى التمركز في عالم الذكاء الاصطناعي قبل امتلاك زمام المبادرة، وتحقيق النجاحات المتتالية.
وفي الخطوات التالية، سيعملون على تقليل آثار العقوبات الحالية والمنتظرة، عبر تعزيز القدرات الوطنية، لتطوير أدوات جديدة، ليشتعل السباق أكثر وأكثر، بينما لن يقف الأمريكيون مكتوفي الأيدي، بل سيبحثون عن طريقة لعرقلة خطوات الصينيين بالتوازي مع رفد أدواتهم المتعددة بأسباب التقدم والازدهار والحماية.
لكن هذا السباق المحموم سيتجاهل للأسف الشديد مخاطر كبيرة على الإنسانية، سبق أن تم تشخيصها والاعتراف بها من أطراف تلك الصناعة والمجتمع العلمي والصناعي والسياسي أيضا.
فقبل عامين تقريبا، وقع مئات من الخبراء المتخصصين، الذين كان من بينهم الملياردير إيلون ماسك، عريضة، يطالبون فيها بإيقاف عمليات تطوير الذكاء الاصطناعي لمدة ستة أشهر على الأقل، بداعي ما قد تحدثه تلك الأنظمة من مخاطر، ولإعطاء فرصة مناسبة للخبراء والمستخدمين وأفراد الجمهور، لاختبار تلك التقنيات، وتقصي مدى ملاءمتها وقدرتها على تقديم فائدة ملموسة من دون التورط في أخطاء كبيرة.
وبعد أيام قليلة من صدور هذه العريضة، عبر جيفري هينتون، الذي يوصف على نطاق واسع بأنّه الأب الروحي للذكاء الاصطناعي، عن ندمه جرَّاء عمله الذي استمر عقودا في تطوير آليات هذا الذكاء غير البشري.
وفي رسالة بعث بها «هينتون» إلى «نيويورك تايمز»، في أعقاب تقديم استقالته من شركة «جوجل»، حذّر من «أخطار متزايدة ستأتي من عمليات التطوير المتسارعة» في مجال الذكاء الاصطناعي.
ولتوضيح فكرته تلك، أكد «هينتون» أنّ منتجات الذكاء الاصطناعي تستطيع، عبر التعلُّم العميق واستخدام الشبكات العصبية المتطورة، أن تتجاوز مستوى المعلومات التي يحتفظ بها الدماغ البشري الراهن، وأنّ تطور آليات تفكيرها بشكل مستقل، قد يجعلها أكثر ذكاءً من البشر في وقت قريب.
لقد سمعنا التحذيرات المتتالية من أنّ تطوير الذكاء الاصطناعي من دون كوابح وتنظيم وقواعد استخدام يمكن أن يشكل «تهديدا وجوديا» للبشرية، ومع ذلك، فيبدو أنّ النزعة التنافسية في «الكلاسيكو» الأمريكي - الصيني، تضرب بتلك التحذيرات عرض الحائط، وهو أمر ستكون له عواقب وخيمة.
وأيا كان الفائز في «كلاسيكو» الذكاء الاصطناعي، فإنّ الخاسر قد يكون البشرية نفسها، التي ستضحى حقلا مفتوحا أمام نزعات المنافسة الضارية، التي لا يغذيها سوى النهم والرغبة في تحقيق الانتصار.