6 أمراض هاجمت عمال حفر قناة السويس الأولى.. أبرزها "الكوليرا"

6 أمراض هاجمت عمال حفر قناة السويس الأولى.. أبرزها "الكوليرا"
بدت على وجوهم البساطة، عملوا تحت وطأة ظروف لا ترحم، ومراقبون أكثر قسوة من الظروف، لم يكفيهم قوت يومهم إلا لصلب عودهم لاستكمال المسيرة، لكن ما باليد حيلة، كان قدرهم "السخرة" التي جعلتهم عبيد التراب، ولم تسعفهم أجسادهم العافية لاستكمال مسيرة الطموحات التي بنيت على انحناءة ظهورهم، بل طالتهم الأمراض من العمل الذي هد أجسادهم، هم عمال قناة السويس الأولى، الذين سخرتهم شركة القناة لحفرها، فكانت قبورا لبعضهم.
لم تكن "السخرة" والمعاملة بإهانة بالضرب بالكرباج والزج في السجن، قدر العمال فقط، بل انتشرت عشرات الأمراض في ساحات الحفر، كان أكثرها النزلات الشعبية والأمراض الصدرية والرمدية، وحالات الإسهال والدوسنتاريا وأمراض الكبد، رغم سياسة الإدارة الصحية التي اتبعتها الشركة، والتي فشلت فشلا ذريعا في منع تسرب الأمراض والأوبئة.
أمراض وأوبئة لم تفلح معها المحاولات، انتشرت بين العمال وقضت على العشرات منهم، وتوارت أجسادهم داخل الحفر التي حفروها بأيديهم، غطاهم التراب وماتوا تحت سخرة المرض.
وتسلط "الوطن" الضوء، على أبرز الأمراض التي ضربت عمال السخرة في حفر القناة، كما عرضها المهندس عبدالحميد أبوبكر، أحد قادة خطة وتنفيذ تأميم القناة، في كتابه "قناة السويس والأيام التي هزت الدنيا":
1. التيفود:
ظهر التيفود بين العمال في أبريل 1862، في ساحة الحفر رقم 6 بمنطقة عتبة الجسر، واختلفت الأراء حول أسباب ظهوره، بين قدوم فوج من العمال من قنا يحمل المرض الذي انتشر بين باقي العمال في ساحات الحفر، وحملوا الميكروب لقراهم لينتشر في صورة وباء، وبين أن الشركة هي السبب في ظهور المرض، حيث الأحوال السيئة في برازخ الحفر، التي اختلفت عما ألفوه في بيئاتهم، ورجح العديدون الاحتمال الثاني، حيث كانت النظافة معدومة في مناطق الحفر.
كافحت الشركة الوباء في تكتم شديد، كي لا تنشر الرعب بين العمال، فحاصر الأطباء الفوج الذي ظهر فيه المرض، وعزلوا المرضى في خيام وأكشاك خشبية، وجعلوهم يقيموا في جهة نائية عن باقي العمال.
ذكر أبوبكر في كتابه، أن كبير الأطباء آنذاك أعلن تغلب القسم الطبي على الوباء خلال شهر واحد، وأن عدد الإصابات بلغ 512 عاملا، والوفيات 21 فقط، إلا أن بعد المؤرخين الذين عاصروا الحفر كذبوا هذه الأرقام، معتبرين أنه في حالة وفاة وإصابة هذا العدد فقط لن يتعطل الحفر في القناة، كما أن عدد من أطباء الشركة المصريين والأجانب أنفسهم لقوا حتفهم جراء المرض.
2. التيفوس:
انتشر التيفوس بين الفلاحين إبان انتشار الطاعون البقري بين الماشية، التي نفق منها خلال عامين نحو 600 ألف رأس، وألقى أصحابها بها في الترع والنيل، ووصل التيفود والتيفوس إلى مناطق الحفر بـ3 طرق، أولها تسرب الميكروب باتجاه بورسعيد من خلال الأمواج، حيث كان يقذف البحر المتوسط آلاف من جثث الحيوانات الملقاة فيه غربا تجاه بورسعيد، وثانيها من خلال جثث الحيوانات النافقة التي ألقيت في الترع الموجودة شرق فرع دمياط، والمتصلة بترعة الماء العذب التي حفرتها الشركة، لتختلط مياه الشرب بالمياه الملوثة ويصل الميكروب للعمال.
أما الطريق الثالث، فكان من خلال العمال الموبوئين الذين ارتادوا مناطق الحفر، وكانت منطقة الشلوفة هي أكثر المناطق تعرضا للإصابة بالتيفوس، وبلغ عدد الإصابات وفقا لبيانات الشركة 225 والوفيات 37 حالة، وأوضح أبوبكر في كتابه أن هذه الأرقام أيضا دون الحقيقة بكثير.
3. الجدري:
تسرب وباء الجدري لمناطق الحفر عام 1864 في أعقاب التيفوس والتيفود، وكما الأمراض السابقة، حلت غريبة على مناطق الحفر، وهو ما يثبت تقصير القسم الطبي في التدابير الوقائية لمنع تسرب الأمراض، ووصل الجدري للسويس من جدة أوائل 1864، مع فوج عبيد سود مصاب جاء بهم تجار الرقيق، فانتقل المرض للأهالي ثم للقاهرة وجهات أخرى في مصر، وظهر الجدري ثانية في مناطق الحفر في أواخر 1866، وكان انتشاره عنيفا في محافظات القناة، ووقع على إثره الكثير من الضحايا بين العمال.
4. الكوليرا:
اجتاح وباء الكوليرا ساحات الحفر في صيف 1865، وكان أخطر الأوبئة التي شهدتها منطقة القناة، ونقله الحجاج المصريون أثناء أداء الحج في أبريل ومايو 1865، وانتشر الوباء وفتك بالمصريين، حيث وصلت باخرة إنجليزية لميناء السويس تقل الفوج الأول من الحجاج، كان بعض ركابها مصابين بالكوليرا، ولم يمر يومين حتى ظهرت الكوليرا في السويس ثم انتشرت في الوجه البحري والصعيد انتشارا واسعا، وبلغ عدد الوفيات في القاهرة وحدها 700 و800 شخص في اليوم، بينما بلغ عدد الوفيات في مصر كلها خلال 3 شهور 61 ألف مصري.
بعد علم القسم الطبي بأنباء تفشي الكوليرا في مصر، اتخذ التدابير الممكنة لمواجهة المرض، من خلال تجهيز مراكز الإسعاف والأدوية والأدوات الطبية، وتخفيض عدد ساعات العمل، وفرض الرقابة على الأغذية، وإبادة القاذورات، وظلت ساحات الحفر بمنأى عن الكوليرا قرابة 15 يوما، حتى ظهرت أعراضه مرة أخرى على عامل في شمال السويس، وانتقل الوباء من الوحدة الصحية بطوسون، ثم انتقل إلى سرابيوم، وتوفى الطبيب الأوروبي المعالج للعمال، وانتشر الذعر في المنطقة، ثم ظهر الوباء في الإسماعيلية.
وصل الأمر لحد خطير، حيث عجزت الإدارة الصحية عن مواجهة أعداد المصابين، للدرجة التي لم تستوعبها الوحدات الصحية والمستشفيات التي أنشئت لعلاج عمال القناة، فحولوا أحد المنازل لمستشفى، لعزل العمال المصابين بالكوليرا والدوسنتاريا، ووقع مئات الضحايا من العمال والأطباء، وقصرت الشركة إحصائياتها على العمال الأجانب فقط، موضحة أنه من الصعب الوقوف على عدد الإصابات والوفيات من العمال المصريين.
5. الدوسنتاريا:
انتشر الوباء بين عمال القناة في شتاء 1868-1869، وكان أول وباء يجتاح في البرزخ وينشأ في ساحات الحفر، فلم يحمله أحد من الخارج، واقتصر انتشاره على العمال المصريين دون العمال الأجانب؛ بسبب البرد القارس وسوء التغذية، ما ساعد على انتشار المرض بين العمال المصريين، في الوقت الذي حمى فيه العمال الأجانب أنفسهم من البرد، وأنفقوا بسخاء على مأكلهم وملبسهم.
وصل عدد الوفيات في هذا الشتاء بين العمال المصريين فقط لـ449 حالة، في حين وصل عدد الوفيات بين العمال الأجانب لـ44 حالة.
6. الرمد:
أصيب آلاف العمال في ساحات الحفر بالرمد، بخاصة في شتاء 1863-1864، نتيجة التعرض للبرودة الشديدة ليلا بعد الحرارة العنيفة نهارا، والتعرض لشدة أشعة الشمس المحرقة، وتأثيرها على شبكة العين، ولم توفر شركة القناة للعمال سوى منشآت تقيهم من البرد، في حين لم تكف المنشآت أعداد العمال، وبررت حينها الشركة انتشار المرض، بمبيت العمال في العراء، وقالت إنه من الصعب إيواء وتدفئة جموع العمال، الذين يتراوح عددهم كل شهر بين 10 وحتى 11 ألف عامل، ولحمايتهم من البرد وزعت الشركة عليهم أخشاب لإشعالها ليلا لتدفئتهم.