ثوابت مصر بين الدور والتحديات والضغوط.. الرئيس والتهجير
عملت مصر على رفض المقترحات الإسرائيلية والضغوط الأمريكية التى تجعل مشروع الدولة الفلسطينية اليوم فى مهب الريح، فى ظل عدم توافر آليات دولية للعرب والفلسطينيين للدفع بقوة نحو حل الدولتين، وجاء الخطاب التاريخى للرئيس السيسى ليوضح بشكل حاسم ثوابت مصر من القضية الفلسطينية. مؤخراً قال الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إن مصر والأردن يجب أن تستقبلا الفلسطينيين من غزة، رفضت وزارتا الخارجية فى مصر والأردن اقتراح «ترامب» لكن الأهم كان رسائل الرئيس السيسى.
تحدث الرئيس المصرى فى مؤتمر صحفى مع نظيره الكينى عن ثوابت مصر التاريخية تجاه القضية الفلسطينية، قيمة خطاب الرئيس تأتى ليس فقط من تأكيده بكل حزم على ثوابت الموقف المصرى من القضية الفلسطينية، بل كذلك من توقيت الخطاب الذى حمل رسائل ليس فقط للحليف الأمريكى بل إعادة تأكيد على دور مصر الإقليمى فى حماية المصالح العربية والفلسطينية، فى ظل واقع إقليمى ودولى متغير ويؤشر لشرق أوسط جديد فى خيال بنيامين نتنياهو.
لقد شاركت مصر فى الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب، واعتبر البعض أن دورها بشكل أساسى كان الوساطة إلى جانب واشنطن وقطر لوقف الحرب، لكن بتتبع دور مصر ورفضها لمحاولات إسرائيلية وضغوط أمريكية وإقناعها الأوروبيين بنزاهة ووجاهة رفض مصر لعدد من المقترحات على مدار الحرب وصولاً للهدنة مؤخراً، ثم خطاب الرئيس ولاءاته بشأن ثبات مصر وموقفها الواضح من حل القضية الفلسطينية يدحض كل محاولات الحديث عن ضعف النفوذ المصرى إقليمياً، ويرد على الانتقادات التى وجهت لها على مدار الحرب فى إطار الابتزاز واستغلال الأوضاع الاقتصادية، كل ذلك دور مصر حاسم فى حل صراعات الإقليم دون استعراضات القوة وباتباع سياسة تتسم بالأخلاق والحفاظ على حقوق الغير.
تأكيد الرئيس على الثوابت المصرية جاء رغم انتقادات كثيرة وجهت لمصر ظلماً خلال العدوان الإسرائيلى منذ أكتوبر 2023، فقد اتهمت مصر بإغلاق المعبر وعدم المواجهة مع إسرائيل، فى حين أن إيران التى دعمت الجماعات المسلحة وشجعتها على التناوش مع إسرائيل لم توجه إليها أى انتقادات على مدار عامين التزمت الصمت وتبرأت من طوفان الأقصى ودعم حماس. ربما تعيش المنطقة مرحلة اختلطت بها الحقائق والمفاهيم والتفرقة بين استغلال قضايا الآخرين أو التعامل بسياسة أخلاقية للحفاظ على الحقوق الوطنية والعربية والإقليمية.
لذا كان خطاب الرئيس بتأكيد ثوابت مصر هو خطاب تاريخى يوضح بكل حسم الموقف المصرى بكل حياد والتزام دون مزايدة عليه، بل يجب الالتفاف حول الدولة المصرية والقيادة السياسية لتكوين جبهة داخلية قوية داعمة فى مواجهة الضغوط الخارجية التى تستهدف بالأساس الضغط على مصر من أجل استكمال أحلام نتنياهو للشرق الأوسط الجديد.
ثوابت مصر فى خطاب الرئيس:
إنشاء الدولة الفلسطينية، والحفاظ على مقاومتها، وبالأخص شعبها وإقليمها، الرفض القاطع لموضوع تهجير الفلسطينيين، لا يُمكن أبداً التساهل أو السماح بالمساس بالأمن القومى المصرى.
أراد الرئيس بكلامه تأكيد أن حل القضية وما يتبعها من أزمات سواء داخل غزة أو فى الإقليم أساسه غياب الأمل فى قيام دولة للفلسطينيين وعدم الحل من الجذور، يريد الرئيس التأكيد هنا أن استمرار غياب الأمل فى الحل يعنى المزيد من الاضطرابات وانعدام الأمن والاستقرار. لذا أكد الرئيس الرغبة فى التعاون مع الحليف الأمريكى والرئيس ترامب لتحقيق السلام والتوصل إلى السلام المنشود القائم على حل الدولتين.
إن ما حدث فى قطاع غزة على مدار ما يقارب الـ15 شهراً منذ السابع من شهر أكتوبر 2023، كان عبارة عن إفرازات لنتائج سنوات طويلة لم يتم الوصول فيها إلى حل للقضية الفلسطينية، الحل لهذه القضية هو حل الدولتين، وإيجاد دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو لعام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية بحقوق تاريخية لا يمكن تجاوزها، حل هذه الأزمة ليس إخراج الشعب الفلسطينى من مكانه، بل يكون هناك حل للدولتين جنباً إلى جنب أمن وسلام للمواطن الإسرائيلى، وأمن وأمان للمواطن الفلسطينى. إن تأكيد الرئيس على وجود أمة فى المنطقة لها موقف تاريخى من ترحيل الفلسطينيين وإزاحتهم من أراضيهم لتتكرر بذلك النكبة مرة أخرى ورفض عودتهم، هو تأكيد على قيادة مصر للدور العربى الرافض لتكرار نكبة 48 مرة أخرى.
وقد تنبهت مصر منذ بداية العدوان الإسرائيلى على غزة للسياسة الإسرائيلية الرامية إلى جعل غزة غير قابلة للحياة مرة أخرى ومن ثم ترحيل الغزاويين إلى الدول المجاورة، والمقصود مصر والأردن.
كان رفض مصر لفكرة التهجير القسرى للفلسطينيين إلى سيناء مفيداً فى إرساء الإجماع الدولى ضد مثل هذه الخطة منذ البداية، حينما دفعت إسرائيل السكان إلى التوجه جنوب غزة فى اتجاه رفح، كما أدت عمليات التوغل فى رفح إلى محاولة دفع الفلسطينيين فى غزة نحو الحدود. كان هدف إسرائيل إجبار القاهرة على قبول اللاجئين كوسيلة وحيدة لتجنب كارثة إنسانية أعظم، وذلك من خلال إجبار الفلسطينيين على التكتل فى الجنوب.
عملت مصر على اللجوء إلى الدول الأوروبية لإيصال الرسالة إلى إسرائيل بأن خرق حدود غزة و/أو احتلال ممر فيلادلفيا من شأنه أن يعرض الأمن القومى المصرى للخطر بشكل غير مقبول، مع ما يترتب على ذلك من آثار على المنطقة. إن استعراض دور مصر منذ بداية الحرب فى غزة وحتى الآن يؤكد أن مصر ما زالت تحتفظ بدور مركزى فى المسائل المتعلقة بغزة بحكم موقعها الجغرافى وارتباطاتها طويلة الأمد بالقطاع، رغم محاولات البعض فى الإقليم لعب دور فى القضية الفلسطينية واستخدامها لاستعراض النفوذ أمام إسرائيل وواشنطن، لكن كانت لاءات الرئيس فى خطابه بشأن ثوابت مصر من القضية الفلسطينية تأكيداً أن مصر هى من تملك مفاتيح التأثير فى الحل سواء بين الفصائل الفلسطينية وبعضها، أو بينهم وبين إسرائيل أو مفاوضات بحث أسس قيام الدولة الفلسطينية.
كذلك رفضت مصر مناقشة فكرة نشر قوة عربية فى غزة لتقديم ضمانات أمنية، وهو الخيار الذى طرحه الغرب خلال الحرب. إن تصور مصر للحل يشمل أيضاً وجوب اتحاد الفصائل الفلسطينية فى حركة وطنية قبل استئناف الفلسطينيين للمفاوضات مع إسرائيل.
عملت مصر خلال الحرب على التوسط بين إسرائيل وحماس فى السعى إلى التوصل إلى وقف لإطلاق النار يسمح بتبادل الأسرى والرهائن وزيادة المساعدات الإنسانية المقدمة إلى غزة بشكل كبير، أملت مصر، بمجرد انتهاء الحرب، أن تتمكن من دفع إسرائيل والفلسطينيين نحو استئناف المحادثات الرامية إلى تحقيق تسوية شاملة تقوم على دولة فلسطينية مستقلة.
ظلت القاهرة تخشى أن تسعى إسرائيل إلى طرد سكان غزة أو خلق الظروف التى تحفز هروبهم من خلال القصف المكثف العشوائى الذى يدمر البنية التحتية المدنية. وقد كانت نية إسرائيل فى دفع الفلسطينيين إلى الخروج من غزة واضحة، فقد دعا تقرير مسرب من وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، إلى إجلاء السكان المدنيين من غزة إلى سيناء، ثم حث رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، دون جدوى، فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة على الضغط على مصر لقبول اللاجئين من غزة.
رفض الرئيس السيسى أى سيناريو يؤدى إلى إعادة توطين سكان غزة قسراً فى شبه جزيرة سيناء. وكذلك استجابت إدارة بايدن وتفهمت وجهة نظر مصر، لقد تمكنت مصر من التعامل مع الأزمة المستمرة فى غزة، ولكن دون الرضوخ للمطالب الإسرائيلية بقبول تدفق الفلسطينيين أو طلبات الولايات المتحدة بدور أمنى مصرى فى قطاع ما بعد الحرب.
وكانت نية إسرائيل فى إخلاء القطاع من سكانه فى إطار جهود التطهير العرقى واضحة منذ بداية الحرب، فالتطورات التى حدثت منذ أكتوبر 2023 وحتى الآن لا يمكن فصلها عن خطط إسرائيل المحتملة لطردهم إلى شمال سيناء، منذ البداية أعلن الرئيس السيسى خلال مؤتمر صحفى عقده فى الثامن عشر من أكتوبر 2023 مع المستشار الألمانى الزائر أولاف شولتز، إدانة أى حديث عن إعادة توطين اللاجئين فى مصر. لقد عملت مصر كوسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكن أثبتت مصر أنها ليست منفصلة عن تبنى المطالب والحقوق الفلسطينية الأساسية.
ومع استمرار حرب إسرائيل على غزة، صاغت إدارة بايدن موقفاً ضد أى تهجير قسرى للفلسطينيين وكذلك ضد إعادة احتلال إسرائيل للقطاع، وحذر وزير الخارجية السابق أنتونى بلينكن فى 8 نوفمبر من احتلال إسرائيلى آخر للمنطقة، قائلاً إن الفلسطينيين وحدهم هم من سيقررون حكمهم بأنفسهم. وفى حديثه فى اجتماع وزراء خارجية مجموعة السبع فى طوكيو، رفض «بلينكن» أى نقل للفلسطينيين، أو حصار غزة، أو تقليص حدودها. وفى 2 ديسمبر، أعلنت إدارة بايدن أنه لن يكون هناك تهجير قسرى، ولا إعادة احتلال، ولا حصار أو تقليص للأراضى، ولا استخدام غزة كمنصة للإرهاب. إن هذه التأكيدات من قِبَل الحكومة الأمريكية على الرغم من الدعم الأمريكى المستمر لحرب إسرائيل ربما تكون أفضل الضمانات التى حققتها مصر للتخلى نهائياً عن فكرة استضافة ملايين اللاجئين الفلسطينيين فى شمال سيناء. ولكن فشلت إدارة بايدن فى تحقيق وقف إطلاق النار فى غزة، مما أعطى إسرائيل بلا شك الضوء الأخضر لمواصلة القتل الجماعى فى القطاع، ولكن فى أواخر أيام الإدارة ومع قرب مجىء ترامب للبيت الأبيض تحقق وقف إطلاق النار، لكن جاء ترامب بدعوته لتهجير الفلسطينيين. هنا كان خطاب الرئيس ليعلن الموقف المصرى من التهجير الذى سيتمكن بلا شك من حشد موقف عربى ضده والتعاون من جهة أخرى لحل القضية من جذورها وبحث أسس بناء الدولة الفلسطينية.
لقد قامت مصر بالجهود الدبلوماسية للوساطة بين حماس وإسرائيل وتحقيق المصالحة بين الفلسطينيين ووقف إطلاق النار ولفت أنظار العالم لقضية التهجير وإدخال المساعدات وجعل معبر رفح منصة للمؤتمرات الدولية لقادة العالم الغربى والمؤسسات الأممية، كل ذلك رغم الانتقادات التى طالت الدور المصرى دون فهم أو وعى، ورغم أن مصر أولى الدول التى عانت على الصعيد الاقتصادى، بفعل الحرب فى غزة مما تسبب فى أضرار جسيمة للاقتصاد المصرى، ومن ذلك الانخفاض الهائل فى العائدات من قناة السويس، أحد المصادر الأساسية للدخل، حيث تسببت هجمات الحوثيين فى اليمن فى تعطيل الملاحة عبر البحر الأحمر، مما أثر على قناة السويس التى كانت تدر على مصر نحو 10 مليارات دولار. والآن لا نحصل إلا على 3 مليارات دولار، وبالتالى فإن الخسارة كبيرة بنسبة 70%.
لقد أدارت القيادة السياسية المصرية الموقف تجاه غزة للآن ومستقبلاً فى إطار الحفاظ على الأمن القومى المصرى والفلسطينى والعربى، رغم التحديات الإقليمية والدولية، لتثبت أن الدور المصرى لا غنى عنه فى حل قضايا الإقليم، وأن الختم المصرى ضرورى لقبول وشرعنة أى خطوات لحل أزمات الإقليم، وأن مصر الدولة الوحيدة المتماسكة شعباً وجيشاً وأرضاً وهى إحدى الدول التى تحد إسرائيل فى حين انهارت كثير من الدول الأخرى حول إسرائيل، لذا فإن تماسك الجبهة الداخلية وقراءة واعية ودقيقة للسياسة الخارجية المصرية وبعيداً عن اللغة الشعبوية والمؤدلجة، هى أهم مقومات قوة الدولة المصرية فى مواجهة الضغوط الخارجية، ومحاولات السطو على دور مصر وموقعها الطبيعى بفعل الجغرافيا والتاريخ.
* أكاديمية
رئيس وحدة الدراسات الإيرانية بـ«المركز المصرى»