أيهما تفضل: حافظ أم فاهم؟

نشط المحللون السياسيون على مدار الـ72 ساعة الماضية، لترجمة وتفنيد وتحليل كل الحديث الذي نُسب للرئيس الأمريكي «ترامب»، والذي كشف فيه للصحفيين على طائرته مقترحه حول إنهاء الحرب كلياً في الشرق الأوسط، مستخدماً عقيدة «شيل ده من ده»، وبدلاً من أن يزيح القادم الجاثم على الأرض، يتفتق ذهنه لإزاحة أصحاب الأرض، بنقلهم أو ترحيلهم أو تهجيرهم - حسب ما نُسب إليه - إلى دولتين لا ثالث لهما، هما مصر والأردن، ربما كان ترشيحه للدولتين قائماً على الجغرافيا، أو التاريخ، أو اتحادهما معاً، وربما يكون جزءًا من مشروع ومخطط شاركه وضعه حليفه الـ«نتنياهو» قبل أن يتفتق «ورمه» ويزيحه هو نفسه عن المشروع لحين تعافيه من المرض أو تعافي الحياة كلها منه، أيهما أقرب.

«كل الاحتمالات واردة».. هكذا حلل الخبراء من مختلف الجنسيات الأمر، قبل أن تظهر حقيقته مع النفي الرسمي المصري لإجراء الاتصال.. إلى هنا انتهى دور المحللين السياسيين، ولم يبدأ بعد دور خبراء علمي النفس والاجتماع والأطباء النفسيين، فقد آن أوان ظهورهم، ليس لتحليل قضية سياسية بعمق القضية الفلسطينية ومقترحات الحل غير المنطقية، لكن لتحليل نفوس وعقول هؤلاء، ممن تركوا ترامب ومقترحه.. تركوا نتنياهو وحربه.. تركوا العالم كله الذي لم يزل يغمس يديه في دماء الشهداء.. تركوا سوريا والشرع، تركوا العقل والمنطق، وتركز هجومهم وتحليلاتهم الجهنمية على «مصر ورئيسها وشعبها».

وبدأت الحرب.. نعم، انطلقت الأقلام تشوه الموقف المصري من القضية برمتها، وتشيطن كل إجراء تم على مدار 15 شهراً من الإبادة المتعمدة والصمود المصري أمامها، بتعمد وترصد وصل حداً تجاوز فيه كل عقل، شاهدنا جميعاً تلك الأقلام التى وظفت اختلافها السياسي مع المرحلة، فقدمت أطروحات أقل ما يقال عنها إنها مختلة؛ نتاج مرض عُضال أصاب العقل بلوثة فمنع عنه الفهم.. أحدهم يحسب نفسه على الإعلاميين، يحافظ على الوصف ولا يحفظ له مكانته من العقل والضوابط. لنا أدواتنا لتحرى الدقة وتكوين وجهة النظر، وحين تغيب هذه الأدوات ويردد صاحبها الأحاديث المرسلة باعتبارها معلومات، والرأي المحض باعتباره تحليلاً علمياً، ويسيح لديه الحابل على النابل، فلا تعلم أهو صحفي أم ناشط أم مزيج مشوه من كليهما، هنا لا يقال عنه سوى أنه «حافظ.. مش فاهم» إلا أجندته التي يملأها بتوقيت واشنطن.

ليس وحده من ارتكب الجُرم، من شكك في دمائه، من اقتلع نفسه من أرضه وزرع روحه في أحضان لا تُبقى ولا تذر، كثيرون ساروا على دربه، وللأسف راجت شكوكهم وتصدّرت، رغم ما لاحقتها من تعليقات تتهمهم بالترصد والغباء السياسي ومناهضة المنطق، لقد حازت منشورات هؤلاء على مواقع التواصل الاجتماعي مساحة واسعة من الانتشار، ليس بفضل محتواها المضلل، لكن بفضل التعليقات التى كشفت عوراتهم وفضحت ما للوطن من أعداء لا يرتدون زي «السمع والطاعة» الإخواني، لكنهم يرتدون زياً آخر، حاكته مصالحهم أو أجنداتهم الخاصة، ومنعتهم من وصف كل مشهد على حقيقته، فمصر - دولة وشعباً ورئيساً وجيشاً - متهمة لديهم في كل نسق وسياق، والمؤامرة هي غلاف فص المخ الذى يقص عليهم نبأ «المتآمرين».

لماذا لا يتبرع الأطباء بعلاج هؤلاء، أو بدراسة حالاتهم؟ فقد كانوا حتى المؤتمر الصحفي للرئيس السيسي مع نظيره الكيني يهيلون التراب على الموقف المصري، يلوثونه بمعتقدهم ورواياتهم التى تصلح امتداداً لـ«روايات مصرية للجيب» يقتنيها الشباب والمراهقون لتلبى لديهم رغبات طاقة البطولة المكبوتة، ومع إعلان الرئيس السيسي موقف كل مصري وموقفه الشخصي وقراره ومعه أمة لن تقبل بطرح التهجير الخيالي المفتقد للعدالة والمنحصر في الظلم؛ وصفاً وتشخيصاً، ارتدّوا إلى مساحة أخرى، ادّعوا فيها الموضوعية، بل إن بعضهم بادر بمشاركة كلمات الرئيس، كنوع من الحياد المصطنع، ولاحتواء أصوات الغضب التي عرّتهم في صفحاتهم ولم يسترهم فيها حاضرهم أو تاريخهم.

صحيح أن الحقائق التي تتكشف يوماً بعد يوم قد تغيّر المواقف التى نتخذها، لكن هناك ثوابت لا تحتاج إلى دليل عليها، لماذا لم يشك عموم المصريين لحظة واحدة في أن ما قيل على لسان الرئيس الأمريكي قد حدث بالفعل؟ لماذا قاوموا كل الادعاءات وسبق رفضهم حتى النفي الرسمي المصري لإجراء الاتصال؟ ولماذا خان المدّعون عقولهم وساروا خلف السموم التى تبثها قلوبهم وتزين لهم المؤامرات سبيلاً؟.. وإذا صح أن الشك هو أساس اليقين، فلماذا - حين أتاهم اليقين - لم يعتذروا للمصريين «دولة وشعباً ورئيساً»؟

شكراً لكل الأطباء وعلماء النفس المتبرعين بدراسة هذه الحالات.. وعلاجها إذا صح لهم علاج.