عن التهجير سألوني

أتدري ما هي مشاعر النازحين العائدين من أبناء غزة إلى شمال القطاع المنكوب؟، هل تعلم ما الذي ينتظرهم في مدنهم وقراهم؟، المشهد مُؤلم ومُوجع بأكثر مما يحتمل العقل والقلب، والأكثر إيلاماً هو أن يحدّثنا مُختل عن انتصار (زائف) لحماس، أو يتباهى مختل آخر (ومحتل) بما فعله (جيشه) جيش الاحتلال، في هؤلاء المساكين.

ستتساقط دموعك وأنت تلمح هذا الطابور البشري المحتشد والممتد بطول البصر، والذي اخترق أمس محور «نتساريم» بعد طول صبر، قضاه الشعب الفلسطيني أسيراً لتعنّت إسرائيلي مستمر ورفض دائم لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، حتى جاءت «صفقة الهدنة» ببصيص أمل، قبل أن يُربكنا نتنياهو في أسبوعها الثاني بقصة «أربيل يهود» التي عطّلت المسيرة، واتخذتها الحكومة الإسرائيلية ذريعة لإيقاف تنفيذ اتفاق الهدنة، لتحبس الأنفاس ساعات مضت بطيئة وطويلة على أهالي غزة، حتى تدخّل الوسطاء وحدثت الانفراجة.

وأخيراً، سمح جيش الاحتلال بمرور النازحين إلى المجهول، فلا يعلم أي منهم ما الذي ينتظره. وحسب ما نقلته لنا الصور عن جرائم الاحتلال في الشمال، فإن الخراب والدمار والعوز والجوع هي بعض مما تركته إسرائيل لهؤلاء، بديلاً عن بيوتهم الدافئة التي كانت تمنحهم بعض الستر وقدراً من الأمان، ورغم ذلك اصطف الآلاف منذ الصباح الباكر، انتظاراً للسماح بالمرور سيراً على الأقدام لكيلومترات، أملاً في أي أمل، حتى لو كان مجرد جدران مهدمة، وركام يحتمي خلفه النساء والأطفال من هول البقاء في العراء.

ربما لو كنت مكانهم لتمنيت الهجرة، وقبلت عرض ترامب بالخروج من دائرة الإذلال أو الموت، فقد يمنحني هذا الخروج بعضاً من حياة يترجاها أي إنسان.

وبالحديث عن «خطة ترامب» التي كرّرت مصر والأردن رفضها جملة وتفصيلاً، ومن خلفهما السلطة الفلسطينية وحركة حماس وكل الفصائل الفلسطينية، بما يُشبه الإجماع الذي لا يتكرّر كثيراً في أي من أوراق القضية. ظني هذه المرة أنه ليس إجماعاً مطلقاً، خاصة على المستوى الشعبي، فهناك لا شك أعداد من الفلسطينيين بعد هذه الحرب القاسية باتوا يُفكرون في الرحيل، رغم بصمات التجارب المقيتة التي تجرّع فيها الفلسطينيون أشكال المهانة والمعاناة في هجرات مُشابهة جرت عبر تاريخ القضية، عندما أجبروا على الفرار بأرواحهم وذويهم من إبادة إسرائيلية منظمة تمّت ضد الشعب البطل، اقتلعته من أرضه بلا أي حق في العودة.

وهنا أطرح حواراً إنسانياً واقعياً، ومن منطقه أقبل مناقشة التصور الذي طرحه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبعيداً عن نواياه، التي بالطبع لن تكون خالصة لوجه الله تعالى، وأتمنى أن يُفسح المجتمع العربي الطريق لمناقشة «خطة ترامب» ويمتلك الجرأة على طرحها بنزاهة وحرية ودون وصاية، وبعيداً عن صخب الموالد الذي يصاحب بعض نقاشاتنا المهمة.

ولا أخشى قبول الحوار حول الفكرة لكن بشروط، أهمها أن يكون الحديث محدّداً حول خطة لمنح الفلسطينيين الحق في الاختيار الحر بين الهجرة أو البقاء، وأن تكون الهجرة متاحة لجميع دول العالم، وألا تحمل أي شبهة للإجبار أو الضغط. ويمكن تنفيذ وتنظيم مسألة الهجرة تلك عبر آلية أممية توفر لمن يُقرّر الرحيل النهائي من أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة بالسفر إلى دول قادرة على توفير سُبل الحياة الطبيعية من سكن وعمل ومعيشة كريمة لهم ولأبنائهم، على أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية ضامنة لتنفيذ هذا الإجراء، وأن توفّر الدعم المالي لتنفيذ هذه الخطة.

مسألة توريط بعض الدول العربية مرغمة، حسبما صرح «ترامب»، في استقبال الآلاف من أهالي غزة، أمر كارثي وغير معقول، وهو ليس في صالح أي من أطراف الصراع، وفي مقدمتهم إسرائيل، فالتهجير إلى الأردن من الضفة (مثلاً) سيخلق وضعاً قابلاً للانفجار على حدود إسرائيل، كما سيُؤثر على استقرار المملكة ويُربك التركيبة الديموغرافية فيها، والتي تعاني أصلاً من جراء نزوح الفلسطينيين إليها بعد النكبة سنة 1948 والنكسة سنة 1967.

إن إدارة ترامب التي جعلت على رأس أولوياتها مكافحة الهجرة ومطاردة المهاجرين، لا يليق بها أن تتبنّى مشروعاً قوامه التهجير القسرى للسكان، لكن وضع الفكرة في سياق إنساني ومنح القرار الحر لكل شخص منفصل، بعيداً عن ضغوط محيطه المجتمعي وتأثيرات فصائل الضغط الفلسطيني، ربما يجعل الفكرة ومعها أفكار أخرى أمينة وصادقة تطرح حلولاً لهذا القطاع المكتظ بالبشر، بأكثر من طاقة مساحته وموارده على توفير أساسيات المعيشة، وظني أن الهجرة إلى الخارج أفضل من بقاء أكثر من مليوني فلسطيني تحت أقدام حماس يخدمون أجندتها السياسية، وتتلاعب بمصيرهم وفق أهدافها، ولا تتوانى أن تلقي بهم فى نيران معاركها، تحرقهم بدعوى الحفاظ على القضية ونُصرتها.

لا يحق لأحد فرض وصاية على الشعب الفلسطينى، كل ما أتمناه أن يُترك ليختار ما يراه في صالحه وما يتناسب مع زمانه، بعيداً عن كليشيهات الماضي وشعاراته التي جربناها ألف مرة، ولم تصل بنا إلى شاطئ نجاة.