الاعتراف.. فقه ومسؤولية
خناقة عادية، في شارع، نادٍ، حارة، مدرسة أو جامعة، لا يعيب المتشابكين فيها اشتباكهم، لا بد أنّ للقصة بداية ووسطا وأنّ الخناقة لن تكون النهاية، ولا يعيب المتفرجين تراصهم الباسم أو المندهش ومتابعتهم التي لا تخلو من تحفيز ضمني، فكلما جذبت الخناقة الانتباه، زادت رغبة المتشابكين في الانتصار بالمعركة.. أمور بدت مثل القواعد في حياة المصريين جميعا، لا فارق بين العاصمة أو المحافظات، الأحياء الشعبية أو الراقية، نحن في الخناقة سواسية، المتعلم مثل الجاهل، والغني مثل الفقير، وأحيانا يجاوز رد الفعل الفعل نفسه بسنوات ضوئية، فيخلع الجميع عباءة المنطق ويتراوحون ذهابا وعودة لتوزيع الحق والجزاء حسب النتائج وليس حسب المسببات.
ونتذكر جميعا عصور ما قبل الموبايل، تزاحم البلكونات والشبابيك لمشاهدة مشاجرات الشوارع، تلك الاحتكاكات والاشتباكات فى الرمق الأخير قبل انطلاق مدفع إفطار رمضان، معاكسات الشوارع قبل أن يسموها «تحرش»، وخناقات السف والتريقة قبل أن تتحول لجريمة تنمّر.. لم يوجه أحد اللوم للمتفرج، هو ليس طرفا ليدفع الثمن، ولا علاقة له بما يدور حوله، هو فقط يتابعه، والأهم.. هل الكل يملك القدرة الفكرية واللغوية والجسدية التي تجعل تدخله لفض خناقة أو شجار لن يتحول إلى وقود يزيد من اشتعالها؟.. أما الآن، ومع ثورة التكنولوجيا تحولت العيون إلى كاميرات، وبدلا من أن نتبادل حكايات الخناقات على القهاوى نتبادل الفيديوهات التى رصدنا بها الخناقة بكل زواياها، ومع تطور السوشيال ميديا وفرضها سلوكا وأسلوبا جديدا على الحياة، لم نتعدّ نتبادل الفيديوهات، بل نفاجأ بها على صفحات التواصل تجني أرباحا بالدولار، لينتهي زمن شهدت فيه الصحفي يدفع للمصورين ومهندسي الكاميرات مقابل مقاطع ترصد جرائم أو مخالفات.. ما الذي يضير المتفرج إذن حين يتحول إلى شاهد، لا يدلي بشهادته أمام جهة، بل يطرح ما وثقه من فيديوهات أمام الجميع، لينعم الكل بالمشاهدة، ويحصد هو عائدها؟
لكل ما سبق سياق يحتمله، أما ما فاق الاحتمال أن يكتمل العبث، الكل بريء، الكل لم يقترف ذنبا، الكل يسير على الأرض بشعار «أنا فل الفل اوعوا تلوموا عليا»، المدرسة التي شهدت الخناقة بريئة والمعيب هو البيوت التي لم تجتهد في تربية أبنائها، البيوت أيضا بريئة، هي تدفع أموالا باهظة من أجل التربية والتعليم معا، إذن العيب في الجيل، هو الذي وُلد بلعنة لن تنخلع عنه أبدا.. العيب إذن فيمن صور ونشر، لتبدأ حرب النشر المضاد، لفيديو الضرب فيديو مساوٍ له في المقدار مضاد له في الاتجاه، الضارب هو أساسا مضروب فى رواية أحدهم، وبينما الروايات تكتب، ينشغل الكل بإثبات براءته من الاتهام، لتبقى الجريمة الكبرى معلقة في رقبة الجميع، ونستحضر معا مرافعة العبقري أحمد زكي حين اعترف بذنوبنا ولخصها: «كلنا مذنبون.. حتى بالصمت العاجز».
في كل واقعة، مشهد، خناقة، محاكمة، اتهام.. يتكرر المشهد بحذافيره، مع اختلاف المسميات، حسب سياق الواقعة.. يخرج الكل بريئا، يحشد أنصاره للدفاع عنه وخلق صورة ذهنية حوله، وتبقى الجريمة بنت المجتمع، يتوارثها ويكررها ولا يعالجها أو حتى يحاكم مرتكبها، حتى لو خرجت التحقيقات بنتائج، مبكرة أو متأخرة، تسبق الصورة الذهنية المصطنعة والبراءة الافتراضية كل تحقيق، ترسخ متهمين وجناة غير الفاعلين الأصليين، ويضيع المجتمع بين روايتين، رسمية غير مُصدَّقة لاعتبارات الثقة وتراكم الخبرات، وافتراضية يتداولها الجميع دون أصل أو سند سوي «بيقولوا».
في زمن القيمة فيه بالجنيه أو الدولار كل الأمور مباحة، يتغير المجتمع على رأس الساعة ولا تتغير كليشيهات التعامل معه، لم نرَ الشتاء بعد ولا نعيش صيفا بل جحيما، وما زال الوصف المنهجي لمناخ مصر «حار جاف صيفا دافئ ممطر شتاء»، نترك المشكلة الأصلية، ونفرع شجرتها تؤتي أكلها كل حين، نجرم من يرتكب سلوكا إنسانيا له سياق ومبررات وعلاج أيضا، نجرم شهوده، نحاكم مجتمع 2025 بمعاييرنا الشخصية، كل حسب سنة ميلاده وتجربته الشخصية، وبيئته وما تحصل عليه من تعليم.. والأهم ما بلغه من وعي حقيقي وليس ظاهريا وإدراكا.
لذا أقترح، بما أنّ الدين سيدخل مجموع المقررات الدراسية، وسيزيد انتباه الأسر والطلبة له، كمادة دراسة، لماذا لا يصاغ المنهج الجديد بطريقة قيمية وليس شرعية بحتة، كأن ندرس فقه الاعتراف بغض النظر عن انتمائه للثقافة المسيحية أو الإسلامية.. كأن ندرس فقه المسؤولية بمعزل عن مساراته الشرعية، فمن تعلم الاعتراف وآمن بالمسؤولية لن يتنصل من شجار أو يختفي خلف صفحات افتراضية، سيواجه ما لم تقترفه يداه، ويتحمل مسؤولية زمنه ومجتمعه.