هل سمعت بقصة الآنسة جينوفيز؟
انتشر مقطع فيديو مدته 25 ثانية بالضبط، يظهر فيه شخص يقوم بفصل رأس شخص آخر، فى منطقة أبوالجود فى الأقصر، ثم أمسك به، أقصد الرأس، وسار حاملاً إياه، ثم غمس يده فى الدماء السائلة منه، وراح يكتب على الجدران، لكن المصيبة ليست هنا بعد، لا ليست فى أن الجانى الذى نجحت الشرطة فى القبض عليه، وتبين أنه غير متزن نفسياً، ويتعاطى مخدر الشابو، وليست فى الرجل المسن الذى كان عائداً من وردية عمله عقب يوم شقاء طويل اختتمه بميتة بشعة، فقد فيها حياته ورأسه، ولكنه فى أمر مختلف تماماً، صار يتكرر بصورة مفزعة للغاية!
استوقفنى فى مقطع الفيديو، كما استوقف كثيرين مثلى، مظهر كل هؤلاء الواقفين حول المجرم، الذين رفعوا هواتفهم المحمولة لتصوير ما يجرى بدلاً من بذل أى محاولة للتدخل، هم أنفسهم مَن رفعوا هواتفهم المحمولة لتصوير عملية ذبح شاب وسط الشارع فى دار السلام بسوهاج فى قرية الكشح -تخيل المفارقة واقرأها بتمعن «ذبح شاب فى دار السلام!»- دون أن يتدخلوا بأى شكل.
حادثان مختلفان فى الصعيد، لكن ردة الفعل لم تختلف، كما هى الحال تماماً فى القاهرة، فمن قلب القرى إلى وسط إحدى أشهر المدارس فى العاصمة، تشارك الجميع فى الفعل ذاته، «الفرجة»، خلال حادث ضرب طالبة من زميلاتها، اللافت بالنسبة لى لم يكن مشهد الضرب والغيظ الذى بدا على وجه الجانية، ولكنه كان فى كل هؤلاء الواقفين -وعددهم ليس بالقليل- الذين رفعوا هواتفهم المحمولة لتصوير المشهد، بينما راح بعضهم يردد «أوه ياااااه» فى حماسة شديدة.
لم تمتد يد واحدة لحماية الصغيرة، أو مساعدتها على الوقوف، حتى بعدما أصبح واضحاً أنها قد صارت تنزف، «فُرجة» تشارك فيها الطلبة وأيضاً المشرفون العاملون بالمدرسة، ربما هذا ما يفسر سر الشعبية الواسعة التى يحظى بها الكتاب الشهير «فن اللامبالاة» بداية من المشاهير وحتى أبسط الأشخاص الذين يصادفونه باستمرار «مضروباً» و«أصلياً» فى كل مكان، ربما هو يؤصل لذلك «السلو» الجديد، ويمنحه شرعية بشكل أو بآخر، تحت شعارات مثل: «لا تكترث»، «ليس شأننا»، «ليست قصتنا»، «تغاضَ ولا تنظر».
تذكرت وأنا أشاهد هذا كله وقائع ما جرى فى شهر مارس من العام 1964 فى منطقة كوينز بمدينة نيويورك، فى ذلك اليوم كانت الآنسة كاثرين جينوفيز البالغة من العمر 20 عاماً عائدة من عملها فى ساعة متأخرة من الليل، وحين وصلت إلى الشارع الذى يقع فيه منزلها تعرضت للقتل، لكنه لم يكن موتاً عادياً، فى الواقع كانت حفلة تعذيب طويل، وصاخب، حيث لاحقها القاتل، وحاولت الشابة النجاة، لكن المهاجم أجهز عليها ثلاث مرات فى الشارع على مدار خمس وثلاثين دقيقة.
بذلت خلالها «كاثرين» كل المحاولات للنجاة بحياتها، وأطلقت كل صيحات الاستغاثة الممكنة طلباً للنجدة، قبل أن ينجح أخيراً فى إنجاز مهمته، وسط جمهور من ثمانية وثلاثين جاراً من جيرانها شاهدوا ما يجرى خلف نوافذ شققهم، دون أن يبذل أحدهم أى جهد، حتى ولو لطلب الشرطة، وربما كانت قصة الآنسة كاثرين لتتحول إلى خبر صغير عابر فى الصحف.
لكنها تحولت إلى موضوع بحث عميق، بعدما تصادف مرور محرر شئون المدينة فى جريدة التايمز أ.م. روزنثال فى نفس توقيت وفاتها، الصحفى الحائز على جائزة بوليتزر فى الصحافة، كتب عقب أسبوع من البحث وتتبع التحقيقات وسؤال الجيران، عموداً قال فيه: «شاهد ثمانية وثلاثون شخصاً محترماً ملتزماً بالقانون من مواطنى كوينز على مدى نصف ساعة قاتلاً يلاحق امرأة ويطعنها فى ثلاثة اعتداءات فى شارع كيوغاردنز، وقد أخافته أصواتهم وأوقفته سطوع أضواء غرف نومهم المفاجئة مرتين، لكنه عاد فى كل من المرتين وبحث عنها وطعنها من جديد».
وتابع «روزنثال»: «يمكن أن تعد كثيراً من جرائم القتل تحصيل حاصل، لكن جريمة القتل فى كيو غاردنز تثير الحيرة، ليس لأنها جريمة، بل لأن أشخاصاً طيبين لم يتصلوا بالشرطة» تنوعت أسباب المتفرجين يومها، كما هى الحال اليوم، لم يختلف الأمر كثيراً، حين تسأل أحدهم لماذا لم تحاول التدخل ولو بطلب الشرطة، تأتيك الإجابات من عينة: «لا أدرى، لماذا؟» أو «شعرت بالخوف» أو ربما «بالتأكيد اتصل أحدهم بالشرطة.. شعرت بأن أحدهم سوف يتصرف بالتأكيد».
لا يبدو أن التفسير الذى انتهى إليه الصحفى المخضرم فى كتاب كتبه لاحقاً، بأن «حياة المدينة» تصيب الناس باللامبالاة، صائباً، فها هى قصص من قلب قرى الصعيد تثبت أن العدوى صارت بكل مكان فى العالم، لكن التفسير الأقرب ربما كان ذلك الذى عثر عليه فى النهاية اثنان من أساتذة الجامعة المتخصصين فى علم النفس، هما بيب لاتين ودون دارلى، واللذان اقترحا أن المتفرجين يكتفون بالمشاهدة دون الإقدام على فعل واضح لسببين أساسيين، الأول، أن كل شخص يظن على المستوى الفردى، أن شخصاً آخر بالضرورة سوف يتصل ويساعد، وأن هذا العدد لا يمكن أن يكون بالكامل متفرجاً؛ لذا لا يتقدم أحد للمساعدة بالفعل.
وأما السبب الثانى فهو أكثر مخادعة من الناحية نفسية، وينطلق من حالة تدعى «الجهل التعددى» حيث تغيب المعلومة، فلا يعود أحد يعلم شيئاً عما يجرى حقاً بالخارج، هل هذه محاولة قتل أم مجرد مطاردة عادية، هل الفتاة ماتت أم أنها مجروحة وحسب، هل التدخل مناسب أم أننى قد أصير متهماً؟ ما الذى يحصل حقاً؟ ربما الأمر بحاجة لمزيد من الوقت والتأنى!
فى مثل تلك الأوقات وبحسب العالمين لاتين ودارلى فإن الناس يميلون إلى الانتظار للنظر فى طريقة تصرف المشاهدين الآخرين، كى يتأكدوا إن كان ما يحدث أمراً طارئاً حقاً يستدعى التدخل أم أنه يتطلب المزيد من الوقت والانتظار!الكل يفضل أن يبدو متزناً، هادئاً ورزيناً، لكن بعض الأحداث لا تتطلب سوى «النخوة» و«الشجاعة» و«التدخل السريع» الذى ربما ينقذ حياة شخص، إن لم يكن بمنع الإيذاء فربما على الأقل بطلب النجدة ممن يستطيع، لكن يبقى السؤال دائماً: «مَن يتحرك أولاً لطلب النجدة؟».