معرض القاهرة الدولي للكتاب: أول هزيمة معنوية لإسرائيل بعد نكسة 67.. وضربة لعزلة مصر الثقافية

كتب: ياسر الشيمي

معرض القاهرة الدولي للكتاب: أول هزيمة معنوية لإسرائيل بعد نكسة 67.. وضربة لعزلة مصر الثقافية

معرض القاهرة الدولي للكتاب: أول هزيمة معنوية لإسرائيل بعد نكسة 67.. وضربة لعزلة مصر الثقافية

بعد نكسة 67، كان الألم يملأ كل زاوية من زوايا الشوارع المصرية، كأن الأمل غادر الوطن تاركا وراءه جراحا عميقة وأسطورة الهزيمة، الوجوه كانت تعكس مرآة الخيبة، بينما الأسئلة التي لا تنتهي كانت تملأ الأفئدة: كيف حدث ذلك؟ وما الذي ضاع؟

لكن وسط هذا الظلام، بدأت تبرز همسات «لن نركع»، كانت هذه الشرارة بداية صحوة جديدة، الشعب المصري الذي اعتاد على الكرامة، وجد في قلبه عزيمة لمواجهة هذا الجرح، وإصرارا على الوقوف مجددا.

ومع مرور الوقت، تجسد هذا الإصرار في الانتفاضة الشعبية التي اجتاحت الشوارع، وبداية لحرب استنزاف استمرت أكثر من 600 يوم على جبهة قناة السويس، إذ بدأت مصر تستعيد قوتها وثقتها.

هذه الحرب لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت بداية للتحول من الهزيمة إلى التحدي، وفي تلك اللحظة الحاسمة، لم يكن معرض القاهرة الدولي للكتاب مجرد حدث ثقافي، بل كان بداية إعلان مصر عن نفسها مرة أخرى كقوة ثقافية عظيمة، أسسته رؤية ثقافية وإرادة صلبة، في أول انتصار ثقافي لمصر، ليثبت للعالم أنها رغم الهزيمة، ستظل رائدة في إشعاعها الثقافي والفكري، مُعلنة أن التحديات مهما كانت لن تعيق مسيرتها نحو النهوض.

هذا المعرض يعكس تمامًا مبدأ «الحرية الشخصية»، حيث يُمنح الزوار حرية الاختيار بين مختلف أنواع المعرفة دون أي محاولة لتوجيههم نحو فكر أو ثقافة معينة، في ظل العولمة التي تسود العالم اليوم، يظل العلم والثقافة والتراث يتدفقون في مجرى واحد، يلتقي فيه الجميع دون قيود أو حواجز.

وعلى الرغم من أن الهدف الأساسي لمعرض الكتاب هو تسويق الكتاب وتعريف الجمهور بأحدث إصداراته، فإنه يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يشجع على القراءة ويعزز من انطلاق الأفكار وتبادلها بين الناس.

لكن من هو صاحب فكرة معرض القاهرة الدولي للكتاب؟ تعود الفكرة إلى عام 1969، حين طرح الفنان عبد السلام الشريف، أحد رواد الفن التشكيلي في مصر، فكرة إقامة المعرض على الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة في تلك الفترة.

كان «الشريف» يرى في المعرض فرصة اقتصادية وثقافية عظيمة، تتمثل في جمع أكبر عدد من الكتب في مكان واحد، لتكون في متناول يد كل باحث ومحب للمعرفة، أما الرؤية الثانية، فكانت تهدف إلى توفير منصة للناشرين لعرض إصداراتهم أمام جمهور واسع من المواطنين والمثقفين.

رحب «عكاشة» بالفكرة، وأبدى اهتماما بالغا بتطبيقها، ونقلها بدوره إلى الرئيس جمال عبد الناصر، رغم ألم الهزيمة التي يتجرعها الجميع، وافق الزعيم متحمسا، نظرا لإيمانه الشديد بقيمة القراءة، وقدرة الأسلحة الناعمة على تحطيم معنويات العدو الصهيوني المغتصب.

سارع «عكاشة» بعدها للتواصل مع سوق الكتاب الدولي في لايبزج (ألمانيا)، وأرسل إسلام شلبي، ممثل وزارة الثقافة، لتسهيل الترتيبات اللازمة لهذا المشروع الطموح، الذي بذل مجهودا كبيرا في إقناع كبرى دور النشر العالمية بالمشاركة في الحدث الكبير، رغم محاولات إسرائيل المستميتة في إحباط إقامة المعرض.

في مذكرات الدكتور ثروت عكاشة، وعند الحديث عن فترة توليه وزارة الثقافة عام 1966 (الولاية الثانية)، يتجسد الدور الاستثنائي لإسلام شلبي في تنظيم أول معرض دولي للكتاب في مصر عام 1969، ورغم قلة الإشارات التي أوردها «عكاشة» عن الشاب المغمور حينها، إلا أن ما قام به شلبي يعد نقطة فارقة في تاريخ الثقافة المصرية.

وأشار «شلبي» في حديث مع «الأهرام» إلى الوضع الثقافي المتأزم في مصر قبل إقامة المعرض، قائلا: إن «الصلة بيننا وبين دور النشر الأجنبية تكاد تكون معدومة بالمرة»، مما كانت له آثار اقتصادية وثقافية سلبية، حيث كانت مصر تفقد سنويا ثلاثة ملايين جنيه إسترليني، بسبب قلة تواصلها مع سوق الكتب العالمية.

ومع تنظيم المعرض، كانت رسالة مصر للعالم واضحة: «رغم الهزيمة العسكرية في 67، فإنها ستظل قوة ثقافية في المنطقة، وستظل القاهرة مركزا للإشعاع الفكري».

إقامة معرض القاهرة الدولي للكتاب جاء ضربة قوية للعزل الثقافي الذي فرضته إسرائيل، وكان بمثابة أول هزيمة ساحقة لها، فمع تدفق الناشرين العالميين والإقبال الكبير من دور النشر على المشاركة، ثبتت القاهرة مكانتها كعاصمة ثقافية عالمية، الأمر الذي زاد من عزيمة المصريين في مواجهة التحديات على كل الأصعدة، الثقافية والسياسية.

وفقا للباحث محمد سيد ريان صاحب كتاب «حكاية أول معرض دولي للكتاب»، شاركت في الدورة الأولى 27 دولة وأكثر من 400 دار نشر، ليصبح حدثا ثقافيا فريدا من نوعه، كان بمثابة منصة تبادل معرفي وثقافي، في رد عملي على الغطرسة الصهيونية بشتى ميادين القتال.

ظلّت إسرائيل تتساءل بدهشة: كيف يكون ذلك؟ لقد هزمناهم، ودمرنا بنيتهم التحتية وطائراتهم، واحتللنا أرضهم، ورغم كل ذلك، نجدهم ينظمون حدثا ثقافيا مهما لأول مرة في تاريخهم.. كيف استطاعوا جمع دور النشر العالمية وجعلها تشارك في هذا الحدث الكبير؟ كيف تمكنوا من تحويل الهزيمة إلى قوة، والإعاقة إلى انطلاق، ليكونوا في هذا الموضع من الريادة الثقافية؟


مواضيع متعلقة