عن تلك العوالم السرية التي أهرب إليها
وسط عالم استهلاكي يركض بجنون في كل الاتجاهات أقف حائرة في أوقات عديدة، إلى أين أذهب، ما العمل وسط كل هذا الصخب والاستغلال؟ أحيانًا يرغب المرء بطابع طفولي بحت، أن يأخذ من دون أن يعطي شيئًا في المقابل، ذلك شعور عظيم، ليس طمعًا ولكن رغبة في قليل من الاستحقاق، ليس هذا سيئًا جدًا، ولا بأس بالاعتراف أنّني أستحق أن أحصل على شيء عظيم ومريح وممتع دون أن أبذل أي شيء في المقابل، أو كما قالت السيدة صافيناز كاظم مقولتها الشهيرة: «لن أبذل أي مجهود».
ولكن كيف؟ ذلك بالضبط هو السر وراء عالمين سريين أشعر داخلهما بذلك الشعور اللذيذ جدًا، شعور المحبة غير المشروطة، والعطاء من دون مقابل! أما المكان الأول، فهو ذلك الذي صار ابني يعلمه جيدًا، حين أخبرهم «أنا هطفش» فيرد بتلقائية وثقة: «هتروحي المكتبة طبعًا».
صار الصغير ذو السنوات العشر يعلم أنني أجد في تلك المساحة الرحبة ملجأ من قسوة الكون والأحداث الجسام.
جدير بالمرء أن يكون له ملجأ خاص، موضع إن أراد الهروب ذهب إليه، وذلك هو مهربي الذي حين أصل إليه أخبرني بهدوء: «سيكون كل شيء على ما يرام»، المكتبة التي أتحدث عنها هي مكتبة مصر العامة، في منطقة الدقي، ذلك القصر الجميل المطل على نهر النيل، بحديقته الطيبة، والكرمة التي تضلل منتصفها، محبة ولطف بلا حدود، مجاني، أعرفها منذ كنت طفلة في المرحلة الإعدادية.
لا أذكر حقًا من عرّفني إليها، لكنه صنع فيّ جميلًا صاحبني على مدار عمري، كم هو غريب ذلك الأمر، أن يذكر لك أحدهم «معلومة» عابرة، فتكون سببًا في خير كثير في حياتك!
هكذا ظللت لسنوات طويلة أقطع الطريق إليها من بيتي في بولاق الدكرور المزدحمة إلى ذلك الموضع الرائق بالدقي، ذهابًا وإيابًا، كان اسمها في ذلك الوقت «مكتبة مبارك العامة»، ما زلت أذكر حين كان يسرقني الوقت فأتخطى الموعد المسموح لعودتي، تسحرني الكتب في الأنحاء فلا أشعر أنها تخطت السادسة.
وأنه عليّ العودة فورًا، فأعود وأنا أدعو الله ألا توبخني أمي، كانت تملك حجتها: «معك اليوم بطوله فلمَ التأخير؟» كان لها كل الحق، فبإمكاني استعارة 5 كتب، وبإمكاني العودة باكرًا جدًا إن أردت، لكن ما لم أستطع وصفه لأمي أن وجودي داخل ذلك المكان يشبع شيئًا ما في نفسي، لا أملك تفسيره حقًا، صرت الآن أملك فكرة ما عنه، ذلك ملجأ وليس مكتبة، تلك واحة طيبة وليست مجرد بناء جميل في موقع عظيم يضم كنوزًا لا حصر لها.
وأما المكان الثاني فهو إلكتروني، ألجأ إليه في الأوقات المملة الطويلة، داخل التمارين، وحين أصاب بالفلس فلا أتمكن من الاشتراك في كل تلك التطبيقات المدفوعة للقراءة، وأيضًا في لحظات الانطفاء؛ ميزته أنّه يكون إلى متناول يدي في أي وقت وفي كل مكان، وبلا مقابل أيضًا، بكل لطف وود، هو تطبيق هنداوي، الصادر عن مؤسسة هنداوي التي كتبت يومًا ما عبر صفحتها الرسمية: «تعكس إصداراتها دائمًا تطلعات القارئ العربي من أجل إثراء العقل، وقدح الذهن، وإشعال الفكر، بأفضل محتوى عربي وعالمي، تأتيكم به عبر منصاتها الإلكترونية»، هذا كله حقيقي، والأدهى أنه مجاني.
صار هنداوي صديقي الصدوق، قبل أيام كنت في حالة انهيار نفسي بشعة، لم أكن أدرى إلى من يمكن أن أتحدث وكيف يمكن أن أفيق، كنت فوق سريري في صباح ذلك اليوم أبحث عن سبب واحد، واحد فقط، كي أضع قدمي على الأرض، وأنهض لأبدأ اليوم، تذكرت في ذلك اليوم أن ثمة مناقشة اليوم لكتابي، ينظمها قراء ونقاد، اجتمعوا معًا من أنحاء الوطن العربي، فنهضت بخفة غريبة.
لكن أثر الكآبة ظل يلازمني، كانت روحي ثقيلة وأشعر أنني بحاجة إلى نصيحة حقيقية صادقة، طبيب نفسي ربما، حتى تذكرت صديقي الصدوق، هكذا فتحت التطبيق بحماس، فجاءتني مجموعة من الحلول السريعة المنجزة على لسان بروفيسورة علم النفس كاثرين إيه ساندرسون في كتابها المبهر «التحول الإيجابي»، بضع صفحات جعلتني أشعر أنني لست وحدي، وأنّ ثمة امرأة وعالمة متخصصة في مجال علم النفس، وتحديدًا علم النفس الإيجابي، تشاركني مشاعر التشاؤم والكآبة وفقدان الطاقة، وتمنحني أيضًا بعض الأمل، عبر وسيط خير منحني كل هذا الجمال مجانًا.
لا يكتفي «هنداوي» بتوفير الكتب الحصرية المترجمة، ولا أمهات الكتب، ولا عدد ضخم من السير الذاتية والكتب العلمية الرصينة، ولكنه أيضًا يواصل عطاءه اللامحدود عبر تطبيق جديد بعنوان «بوك تايم»، مخصص للأطفال، أتحدث هنا عن 2000 كتاب وقصة مجانية لتنمية حب القراءة للأطفال، كتب مختارة بعناية، فهل هناك أمر أكثر لطفًا؟!