«الكبيرة»

شمعة واحدة يشتعل ضيّها، تتهافت عليها الأنفاس، الكل يريد أن يطفئها فيفوز بالاحتفال، أو يبدو وكأنه صاحب «عيد الميلاد»، لولا أن أحدهم يمسك بمفتاح الإضاءة المركزية، في لحظة تهافتهم يشعل المكان بالنور، فيخفت ضىّ الشمعة ويكاد ينصهر.

يلتفت المتهافتون إلى الرجل الهادئ، لقد أفسد عليهم لحظتهم، وأفسد مخطط من يفوز باللقطة الأخيرة، التي تكتب اسمه في مانشيتات هي لتزوير التاريخ فحسب، وليست للتصديق على أرض الواقع.. فإما أن يُكتب «بايدن يودع البيت الأبيض بهدنة غزة وخطوات نحو السلام»، أو «ترامب يدخل البيت الأبيض بإيقاف إطلاق النار وعودة الهدوء إلى الشرق الأوسط».. وبين وداع بايدن ودخلة ترامب، تغيب الحقيقة التي لا يعرفها ويشهد عليها إلا «أصحاب الأرض».

ماذا قال أصحاب الأرض عن الهدنة التي رعتها الدول الثلاث؟، مصر - في القلب دوماً - وقطر والولايات المتحدة الأمريكية، شهور عديدة من (الحرب.. من الشهداء.. الدماء.. الافتراء البين على الإنسانية.. كشف العورة لكل من تبنى حديث أبناء العم).. وهكذا، لن ينغلق القوس أبداً، يمكن أن يظل مفتوحاً لآلاف الكلمات والأوصاف والأفعال التي حفرت ذاكرتنا، شوهت واقعنا، حولت الابتسامة لخيانة، النوم لحلم، الصبر لدواء، الدعاء لمعجزة.

وبينما نحن نتداول مشاعر العجز وأحاسيس القهر، كان هناك من يؤمن بأن الخلاص آتٍ وحتمي، من رفض المليارات ونحن في أشد العوز، وصمد في وجه الإغراءات مرة والاستفزازات مرات، من فرض حدوده على طموحاتهم ومشروعهم، ومن كتب في هدنة - هي للتاريخ - أن كل مُر سيمر طالما بقيت الأرض وعليها أصحابها، ليسطر الواقع ملحمة بطولة جديدة، تتسلح فيها مصر بالثبات على المبدأ، وبحنكة سياسية وأمنية، وبقدرة على خلق مساحة من التوازنات في زمن الاندفاع والتهور سيد قراره.. إنه المانشيت الذي لن يذكره تاريخهم الموضوع، لكننا حتماً سنرويه لصغارنا ونكتبه في تاريخنا ولو كره الكارهون.. تحت عنوان أعم وأشمل «مصر كبيرة برجالها».

وفى الحديث عن وصف «الكبيرة» الذي ذكره الرئيس السيسي عن مصر، خلال مشاركته في احتفالات عيد الميلاد، تتعدد التفسيرات، البعض يشير دوماً إلى عمق التأثير الذي يجعل وصف الكبيرة قريباً من مفاهيمنا نحن، من تربى في الصعيد يدركه، ومن تربى في الدلتا يعلمه.

وحتى أبناء «القاهرة الجديدة» يفهمون المصطلح، إذ إنه على لسان الجميع، نردد في كل موقف «اللي مالوش كبير.. بيشترى له كبير»، وما فعلته مصر وتفعله وستظل تفعله في ملف إحكام العقل وترويض القوة، عالمياً وإقليمياً، وفي ملف فلسطين تحديداً، يعطينا محددات لوصف الكبير، فلم يعد لائقاً أن ينطبق على الجميع، أو أن تتم ترجمته لغة لا اصطلاحاً، أو أن يرتبط بالمتقدم في العمر فحسب، أو الدولة مترامية الأطراف والثروات، لهؤلاء بالطبع تقديرهم وقيمتهم.

لكن مصر ربطت المصطلح بأداء يأتي دونه الجميع، حتى من بات ليلته يستعرض ما له من قوة ناعمة، يصف نفسه بأنه الكبير الذي جمع الكبار جميعاً في رباط واحد، جاءت صفوف الشاحنات المصطفة والعابرة من مصر إلى قطاع غزة بأطنان من المساعدات الإنسانية - بعد تنفيذ الجزء الأول من الهدنة، وإيقاف إطلاق النار - لتقول له بلسان مصري أصيل «من هو الكبير»، صحيح أن القوة الناعمة جزء أصيل من كل انتصار، وجانب لا يمكن إغفاله في أي حرب، لكنها أبداً لن توقف نزيف دم، ولن تسد جوعاً، ولن تغطي جسداً عارياً، ولن تمحو ذاكرة اصطف الشهداء فيها يلومون كل نائم حالم بأن «دمى في رقبتك».

هذا وقد آن أوان الاحتفال.. الآن، وقبل ساعات من كتابة هذه الكلمات، عادت الطيور إلى السماء بعد أن غادرتها المسيَّرات، وقد ترضى السحاب وتنزل غيثه علينا فيتطهر الجميع مما علق به بفعل الحرب.

الآن سماء غزة صافية بلا رشقات صاروخية ولا قصف دموي يختار أفضل من عليها ليحيله تراباً.. الآن الأرض ممهدة بعد أن شربت كل دمائها، تبحث عن يد تغرس نبتة هي دوماً الأمل والحياة.

الآن عادت القلوب إلى موضعها بعد أن كانت دقاتها أقوى من دبة القدم على الأرض.. الآن نتأهل للحديث، نكاد نتعلمه من جديد بعد أن أتقنا البكاء والنحيب، واعتادت القلوب نزفاً دون دماء.. الآن نغطّ في سبات عميق، نقابل فيه أرواح مَن غادرونا، غدراً وقسوةً، نعدهم بمستقبل أفضل يحفظ الأرض لمن عليها.. لكن كل هذا لن ينفي عنا أننا الآن وغداً وبعد غد وإلى يوم الدين «لدينا ثأر» سيأتينا ونأتيه.