الإعلام في معترك السيادة والنفوذ
لم ينتهِ العام 2024 قبل أن يثير مخاوفنا العميقة على حرية الإعلام، وتعدده، وتنوعه، وقدرته على التزام القواعد المهنية، وهذه المخاوف لم تكن تتعلق فقط بدول العالم الثالث، المعروف معظمها بسجل حافل بالمخالفات في هذا الصدد، لكن هذه المخاوف ثارت للأسف في معقل الديمقراطية وحرية الإعلام.. في الغرب.
فعلى عكس ما راج وشاع، حتى بات أن يتكرس يقينا، عن احتفاء العالم الغربي بحرية الإعلام وتعدده، وقعت الوقائع الكبرى؛ مثل الحرب الروسية - الأوكرانية، و«حرب غزة»، لتظهر اعتوارات كبيرة في الأداء والتنظيم الإعلاميين في الغرب.
لقد أُهرق الكثير من الحبر في تعيين الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها المنظومة الإعلامية الغربية إزاء الحربين الكارثتين، ولم يعد هناك الكثير ليُقال، ومع ذلك، فإنّ نزوعا تنظيميا نحو الانغلاق والحماية والمنع والتقييد برز بوضوح في مجال حرية تملك وسائل الإعلام، سواء كانت «تقليدية» أو «جديدة» في العالم الغربي. وهو أمر مثير للدهشة والاهتمام في آن.
ففي إحدى البلدان، أرادت شركة أجنبية أن تستحوذ على صحيفة رئيسية، لكن مخاوف كبيرة وانتقادات نشأت واستهدفت ذلك التوجه بشدة، بداعي وجود «مخاطر على حرية الصحافة»، ولقد تم إجراء تحقيق في هذا الشأن، كانت نتيجته منع هذا الاستحواذ.
وفي بلد آخر، اجتهد المشرعون من الحزبين الرئيسين لتمرير تعديلات قانونية تستهدف وضع قيود على الشركات المملوكة لجهات أجنبية عند العمل في قطاع التكنولوجيا والإعلام، والهدف هو منع تطبيق «تواصل اجتماعي» رائج من العمل محليا، بداعي أنّ له صلات بحكومة أجنبية، وأنّه يجمع معلومات عن المستخدمين قد تهدد «الأمن القومي» للبلاد.
البلد الأول هو بريطانيا، والبلد الثاني هو الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الحالتين ستثور أسئلة شائكة وحادة عن حرية الرأي والتعبير، وانفتاح وسائل الإعلام، وحرية المنافسة، التي هي قيم تشكل ضمانة للديمقراطية، وفق الأدبيات الغربية.
الخبران راجا طوال العام الماضي، وأحدهما الذي يتعلق بتطبيق «تيك توك» أكمل معنا في العام 2025، وما زالت تطوراته تتفاعل وتخطف الاهتمام.
لقد أعلنت مجموعة إماراتية عزمها شراء صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية الشهيرة، وشقيقتها مجلة «سبكتاتور»، وهما منصتان محسوبتان على التيار المحافظ في البلاد.
لكن الدولة البريطانية، بمؤسساتها المعنية، حظرت هذا الاستحواذ، بعد استخدام ذرائع من تلك التي تستخدمها بلدان العالم الثالث حين تدافع عن قراراتها وسياساتها الرامية إلى «تحصين» بيئتها الإعلامية من «الاختراقات».
الشيء نفسه حدث في الولايات المتحدة، التي أقرت المحكمة العليا بها قرارا بحظر «تيك توك» في موعد أقصاه 19 يناير الجاري، أو بيعه لمالك أمريكي، وحتى كتابة ذلك المقال، لم يكن من المعروف ما إذا كان الحظر سيطبق، أم أن بعض الجهود التي تُبذل لتمديد المهلة الممنوحة للتطبيق ستنجح، أو يتدخل مالك جديد لشراء التطبيق، ويبقيه فعالا.
يقول المشرعون الأمريكيون الذين تبنوا هذه التعديلات إنّ «تيك توك» له روابط بالحكومة الصينية، وأنّه يجمع معلومات بشراهة ونهم شديدين، وأنّ وجود تلك المعلومات لديه، واحتمالات تسليمها للحكومة الصينية يهدد الأمن القومي للبلاد.
ويستشهدون، في ذلك الصدد، بما سبق أن فعلته حكومات ومؤسسات بريطانية وأوروبية -منها البرلمان الأوروبي- حين اتخذت قرارات، قبل عامين، بوضع قيود على استخدام «تيك توك»، كمنع الموظفين من استخدام هواتفهم المزودة بالتطبيق في أماكن العمل.
من خلال هذين الخبرين أصبحنا نعرف معلومات جديدة بخصوص حالة حرية الرأي والتعبير والمنافسة والتعددية في بلدين يمثلان معقلين أساسيين للديمقراطية والليبرالية الغربية، ولكليهما باع كبير وتاريخ زاهر في مضمار حرية الصحافة وديمقراطية الاتصال، كما أنّ أحدهما يمثل الحاضن الرئيسي لمعظم شركات التكنولوجيا و«التواصل الاجتماعي» المهيمنة على ساحة الاتصال والإعلام في العالم.
لقد كان «تيك توك» أحد أكثر التطبيقات الاجتماعية إثارة للاهتمام في الغرب، حتى أنّه حظي بمستخدمين يفوق عددهم 170 مليونا في الولايات المتحدة وحدها.
ويعتمد «تيك توك» مسار عمل خاصا ومميزا، ويركز بوضوح على فئة عمرية جلها من الشباب واليافعين، ويتم عرض المحتوى عبره ببراعة شديدة، تستفيد من نزعات الجيل الأصغر سنا المتعلقة بمشاهدة الفيديوهات القصيرة والخاطفة ومُكثفة الدلالة، والتي لا تخلو أيضا من طرافة وبعد عن الاعتيادية.
سيُمكن القول إن «تيك توك» هو المساهمة الصينية الأبرز في عالم «التواصل الاجتماعي»، وبالنظر إلى أنّ الصين استكملت بناء «عزلتها الرقمية»، وتكوين «درعها الإنترنتية» الصلبة، لعزل مواطنيها عن مؤثرات المنصات الغربية الناشطة في هذا المجال، فإنّ «تيك توك» بات «سيفا صينيا»، يؤدي «دورا هجوميا» خالصا في المعركة على الانتباه، والأولويات، والاتجاهات.. أي معركة «كسب العقول والقلوب».
وبينما يتابع العالم بقلق واهتمام بالغين مجريات المنافسة الدولية الشرسة بين الولايات المتحدة على رأس المعسكر الغربي من جهة، وبين الصين من جهة أخرى، وفيما تمتد تلك المنافسة وتتوزع على مجالات النفوذ السياسي، والعسكري، والطاقة، والتجارة، يظهر البعد الاتصالي لها جليا في مجال وسائل «التواصل الاجتماعي».
وسواء كان الأمر يتعلق بوسائل الإعلام «التقليدية»؛ مثل صحيفة «تلغراف»، أو وسائل الإعلام «الجديدة»؛ مثل تطبيق «تيك توك»، فإن فكرة حرية الرأي والتعبير، والتعدد، والتنوع، والانفتاح الإعلامي، باتت على المحك في معقلها الأساسي، وهو أمر ستكون له عواقب.