لبنان يطوي صفحة الفراغ بانتخاب جوزيف عون
شهدت الجمهورية اللبنانية انفراجا سياسيا طال انتظاره بعد أكثر من عامين من الفراغ الرئاسي الذي كاد أن يقضي على ما تبقى من مؤسسات الدولة ويُغرق البلاد في مزيد من الأزمات الاقتصادية والسياسية، في ظل هذه الأجواء المشحونة، تم انتخاب قائد الجيش جوزيف عون، رئيسا للجمهورية اللبنانية، في خطوة جاءت بعد ضغوط محلية ودولية مكثفة، محمّلة بآمال وطموحات كبيرة لفتح صفحة جديدة في تاريخ لبنان الحديث.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: لماذا تأخر انتخاب الرئيس طوال هذه الفترة؟ وكيف تم التوصل إلى التوافق على شخصية جوزيف عون في هذا الوقت بالذات؟ ولماذا كانت أولى خطواته زيارة المملكة العربية السعودية؟ للإجابة على هذه الأسئلة، لا بد من استعراض تعقيدات المشهد اللبناني الداخلي وتأثير التدخلات الخارجية.
ظل لبنان بلا رئيس منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق، بسبب غياب التوافق السياسي الداخلي بين القوى المتصارعة، فضلا عن الانقسامات الحادة داخل البرلمان، معادلة انتخاب الرئيس في لبنان، التي تتطلب تأمين النصاب القانوني (حضور 86 نائبا من أصل 128) واتفاق القوى السياسية المختلفة على مرشح توافقي، كانت مستحيلة في ظل الانقسامات الطائفية والسياسية.
تفاقمت الأزمة بعد غياب تيار «المستقبل» المعتدل عن الساحة السياسية، ما أضعف التمثيل السني في البرلمان وأخلّ بتوازنه القوى، ووسط هذه التعقيدات، استمر الانهيار الاقتصادي في لبنان، حيث فقدت العملة الوطنية قيمتها بشكل غير مسبوق، وارتفعت معدلات الفقر إلى مستويات كارثية.
لم تكن الأزمة السياسية وحدها هي التي دفعت الأطراف اللبنانية والدولية إلى التحرك، فقد جاءت الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل لتزيد من تعقيد المشهد، الحرب التي ألحقت دمارا كبيرا بالبنية التحتية في بيروت والجنوب اللبناني، خلّفت وراءها خسائر بشرية ومادية هائلة، هذه الكارثة جعلت من الواضح أن لبنان بحاجة إلى قيادة سياسية قوية لاحتواء الوضع وإعادة الإعمار.
كانت هذه الحرب نقطة تحول، حيث دفعت القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا، إلى التدخل بشكل أكبر لحماية لبنان من الانزلاق نحو الفوضى الشاملة، مصر والمملكة العربية السعودية لعبتا دورا محوريا في هذا التحرك، لضمان استقرار لبنان ومنع تحول الجنوب اللبناني إلى بؤرة صراع دائم.
في هذا السياق، جاء التوافق على شخصية جوزيف عون، قائد الجيش اللبناني، فرغم الخلافات السياسية الحادة، رأت الأطراف المحلية والدولية في عون شخصية جامعة يمكنها قيادة البلاد في هذه المرحلة الحرجة.
اختيار عون لم يكن محض صدفة، بل استند إلى دوره في الحفاظ على استقرار لبنان خلال أصعب المراحل، فقد نجح الجيش اللبناني بقيادته في لعب دور محايد وحاسم، ما أكسبه احتراما داخليا ودوليا، إضافة إلى ذلك، دعمت الدول الكبرى انتخابه، باعتباره شخصية قادرة على بدء إصلاحات جذرية، وتحقيق توازن سياسي وأمني ضروري.
اختار الرئيس الجديد، جوزيف عون، المملكة العربية السعودية كأول وجهة لزياراته الرسمية، في خطوة تحمل دلالات عميقة، أولا: تأتي الزيارة استجابة لدعوة رسمية من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي كان من أوائل المهنئين بانتخابه.
ثانيا: السعودية كانت ولا تزال شريكا استراتيجيا للبنان، ولعبت دورا رئيسيا في تسهيل انتخاب عون من خلال دعمها لجهود التوافق السياسي، كما أنّ المملكة التي كانت من أبرز داعمي لبنان اقتصاديا عبر العقود، تُعد الآن لاعبا أساسيا في أي جهود لإعادة الإعمار أو توفير مساعدات اقتصادية عاجلة.
زيارة عون للمملكة تعكس كذلك سعيه لتأكيد توجه لبنان نحو تعزيز العلاقات العربية، خاصة في ظل التوترات الإقليمية. ويُنظر إلى هذه الزيارة كبداية لعهد جديد من التعاون اللبناني-السعودي، الذي قد يشكل دعامة أساسية لاستقرار لبنان اقتصاديا وسياسيا.
رغم انتخاب الرئيس الجديد، يواجه لبنان تحديات هائلة لا يمكن حلها بين ليلة وضحاها، فالأزمة الاقتصادية والمالية تحتاج إلى إصلاحات عميقة ومساعدات دولية ضخمة، وهو ما يتطلب إعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطنين، وبين لبنان والمجتمع الدولي.
انتخاب جوزيف عون يُعد خطوة أولى نحو هذا المسار، لكن النجاح يعتمد على قدرته في بناء توافق داخلي حقيقي، وإطلاق عملية إصلاحات جادة تبدأ بإعادة هيكلة النظام المصرفي والمالي، ومعالجة القضايا الاجتماعية الملحة.
وفي النهاية دائما ما تبقى كلمة، انتخاب رئيس جديد يمثل فرصة نادرة للبنان، لكنها تتطلب قيادة حكيمة ورؤية واضحة لاستغلالها، اللبنانيون، الذين تحملوا سنوات من الأزمات والانهيارات، يعلقون آمالهم على عهد جديد يعيد إليهم الأمل بمستقبل أفضل.