يوم غزة التالي وفيل الغرفة
فريق يقول إن غزة انتصرت، وآخر يؤكد أن القضية خسرت. جبهة تُهلل وتصيح ملوحة برايات النصر الذى حقّقته «المقاومة»، وأخرى تُطالب بتوضيح معنى الانتصار وتعريف المقاومة.
وسواء كانت هذه أو تلك، أو كان انتصاراً بطعم المرارة، أو مرارة بطعم الانتصار، أو كانت شيئاً مختلفاً، يبقى الأهم هو «اليوم التالى».
«اليوم التالى» متخم بالأسئلة، بعضها إجاباته لدى مسئولين فى مشارق الأرض ومغاربها، والبعض الآخر سيظل معلقاً فى هواء تطورات الأحداث فى الإقليم، وليس فى غزة وحدها.
بعيداً عن الفريقين المتناحرين والجبهتين المتقابلتين (فهذه سمة أصيلة لمن يعانون فراغاً فى الوقت أو خواءً فى الفكر أو كليهما)، غزة المستقبل هى الأهم، ومعها مصير القضية الفلسطينية ذات الأطراف المتشعبة والمتشابكة، والتى بكل تأكيد لم ولن تنتهى بإبرام اتفاق وقف إطلاق النار.
صحيح أن التعلّم مما جرى، والقدرة على الخروج بدروس مستفادة من مجريات الأحداث الجسام المميتة التى تواترت فى اليوم التالى للسابع من أكتوبر 2023، يُمكن أن يقينا شرور تكرار الأخطاء والوقوع فى المستنقع نفسه عشرات المرات، والإقبال على الأفعال ذاتها دون النظر إلى الواقع والإصرار على التحليق فى عوالم الخيال، إلا أن علينا الآن أن ننظر إلى الخريطة المتاحة والمستقبل القريب.
هذا المستقبل يجب أن يكون خالياً من إلصاق الاتهامات الباطلة بمصر والمصريين. حتى لو أصر البعض على الاستمرار فى توزيع الاتهامات، وتعليق خيبته القوية على الشماعات، والاعتماد على ضعف الوعى ووهن الفكر لدى فئات بعينها من أجل نشر الفتنة ونثر الأكاذيب، وإبقاء الأعين بعيدة عن مواطن المرض الأصلى ومكامن الخلل الحقيقية، سواء فى نظام المصالح الغربية المتشابكة أو البعض من الإقليمية الخبيثة، فإن الوعى هو الطريق الوحيد الذى لا بديل عنه.
علينا أن نعى أن هناك من يُخصّص وقته وجهده لتحميل مصر والمصريين هموم ومسئوليات وأخطاء وواجبات الكوكب. واجب مصر تجاه القضية، أو بالأحرى قضايا محيطها العربى، لم يضعف أو يتغير مساره يوماً.
المسار الذى تغير هو الأدوار التى جرى تغييرها وتعديلها فى المنطقة، والخطط التى أعيد رسمها لبعض الدول، وقبول جماعات وكيانات كانت مرفوضة، ورفض أخرى كانت مقبولة. هذا ما تغيّر. أما مصر ودورها، والمصريون وأولوياتهم فلم تتغير.
رأيى الشخصى فى ما جرى ويجرى فى ملف القضية الفلسطينية أحتفظ به لنفسى، فهذا ليس وقت آراء شخصية، ولكنه وقت بناء وعى حقيقى لا يسمح للثعابين بالتلاعب بعقولنا ووعينا.
عقولنا ووعينا تحتاج إلى عمليات بناء وصيانة مستمرة، ليس فقط لدرء الثعابين والثعالب، ولكن لتصحيح المسارات وتقويم الاختيارات. مصر دولة مدنية، وحتى نُبقى على مدنيتها، ونحافظ على أمنها وسلامها الاجتماعى، علينا أن تعمل باستمرار من أجل استدامة هذه المدنية.
المدنية لا تخلط بين الدينى والسياسى، أو الدينى والثقافى، أو الدينى والاقتصادى، أو الدينى والرياضى. وقبل أن يقفز القفازون، ويهجم الهجامون، عدم الخلط هذا لا يعنى محاربة الدين أو إقصاءه. فالدين سيظل دائماً وأبداً جزءاً لا يتجزّأ من التكوين المصرى.
أما نسخة التدين السبعيناتية المغلوطة والمتطرّفة، والتى نبذها أهلها، وتبنّاها البعض منا وكأنها الدين الحق، والدين منها برىء، فالسكوت عليها، وغض الطرف عن قيام البعض بالاستثمار فيها وتقوية شوكتها من خلف الأبواب المغلقة، فهى أحد أبرز مهدّدات الاستقرار والأمن والسلام الاجتماعى.
من جهة أخرى، فإن مبدأ «داوِها بالتى كانت هى الداء»، أن محاربة التطرف والتشدّد والتدين المظهرى بنسخة أخرى من التطرف والتشدّد والتدين المظهرى فيها سم قاتل، قد لا يظهر أثره الآن، لكن آثاره المميتة ستطفو على السطح غداً أو بعد غد.
هذا النوع من العلاجات أشبه بتجاهل الفيل القابع فى الغرفة، وهو المثل الإنجليزى العبقرى الذى يشبه تجاهل وجود مشكلة ضخمة وحقيقية ومرئية وقابلة لتدمير ما حولها، بالفيل فى الغرفة.
جهود عظيمة مضنية تُبذل على مدار عقد ونصف العقد، وتحديداً منذ أسقط المصريون حكم الإخوان لإعادة بناء مصر، والتى لن تكتمل إلا بإعادة ترميم ما لحق بعقول وقلوب البعض من تخريب أبدعت فيه جماعات الإسلام السياسى بمسمياتها المختلفة.
الفيل فى الغرفة واضح وصريح ولا لبس فيه. وبقاؤه جالساً على الكنبة بهدوء لا يعنى أنه لن يلحق ضرراً بالغرفة ومن فيها غداً أو بعد غد أو بعد عام.
لن أشير إلى صوت الرئيس السيسى الذى بُح مطالباً بتنقيح الخطاب الدينى وتطهيره مما لحق به على مدار ما يزيد على نصف القرن.
أشير إلى من يصر على تحقيق الترند والبقاء فى دائرة الضوء بفتاوى تهنئة المسيحيين وضرب الزوجات وفوائد البنوك وتحية العلم وترك العمل للصلاة وتخفيف العمل للصيام. حتى لو جاءت الإجابات عاقلة، فإن الإبقاء على عقلية المصريين فى هذا القمقم فيه سم قاتل وأثر مميت.