عن مأساة التاريخ (1-1)

رحاب لؤي

رحاب لؤي

كاتب صحفي

فى ولادتى الأولى، سألنى الطبيب «طبيعى ولا قيصرى»، فأجبته أننى لا أفضل التدخل فى أمر كهذا، وأننى أترك الأمر لحالتى الصحية، وما تمليه فى توقيت الولادة إن كان هذا أو ذاك، لم أرغب فى التحكم بأمر قدرى، حتى اللحظة الأخيرة، تركت كل شىء لله، فاختار الله لابنى أن ينذرنى بقدومه فجر يوم 30 مارس 2015 ليرى النور فى ظهر هذا اليوم، وقد كنت راضية عن الطريقة التى جاء بها، لأنها بالكامل خارجة عن إرادتى.ربما لهذا كان الألم يعتصر قلبى قرب ولادة ابنتى الثانية، حين أخبرنى الطبيب أن الولادة التالية سوف تكون قيصرية بالضرورة، وأنه حان الوقت لتحديد موعد الولادة، شعرت بغصة فى قلبى، ولا أنكر يومها أننى بكيت حين نزلت من العيادة، مَن أنا لأحدد موعد قدوم طفل صغير إلى الكون، أليس من الواجب أن أترك الأمر لله كما هو الحال فى المرة الأولى؟!، اخترت التاريخ على مضض، بعد أن أكد لى طبيبى أنها مكتملة النمو، وأنه لا بأس بأى تاريخ عقب يوم 11 من شهر مايو فى العام 2019، اخترت يوم 16 أردت أن أمنحها أطول وقت ممكن بالداخل، لكننى لم أكن أشعر بسعادة تذكر، ذلك أن تدخل البشر باختياراتهم فى أمور من صُنع الله يفسدها ويفقدها جلالها بأشكال مختلفة.

ربما لهذا توقفت كثيراً أمام شهادة لطبيبة تحدثت فيها عن عدد الأطفال الذين اضطر الأطباء إلى وضعهم فى حضّانات يوم 1/1 ذلك التاريخ المميز جداً الذى يحرص الآلاف على اختياره كموعد لميلاد أطفالهم، حتى ولو يكتمل نموهم، المسألة لا تتعلق بأمهات وآباء لا يحترمون أقدار أطفالهم وأقدارهم الشخصية، وإنما بأطباء باعوا ضمائرهم وأخرجوا صغاراً من أرحام أمهاتهم فى غير موعدهم، وسط هذا البرد القارس، كيف يمكن أن تصمد مناعتهم، من سيُسأل إن مات أحدهم!هل أدرك الآن هؤلاء الآباء ما يعنيه بقاء طفل بلا حول ولا قوة فى حضّانة تحت الضوء الأزرق، بعيداً عن حضن والدته، يبكى بلا مجيب، وينتحب دون أن يعلم ما الهدف من بقائه داخل ذلك الشىء؟

خوف اللحظات الأولى بعد الولادة، يضاف إليه رعب البقاء بعيداً عن حضن أمه لأيام لا يعلم عددها إلا الله، ناهيك عن كم الأدوية التى تدخل إلى جسد الصغير من دون داعٍ، يواصل البكاء بينما يجف صدر أمه، حتى يبدأ رحلته مع الرضاعة الصناعية حين يخرج بعدما فقد العلاقة الغريزية التى تبدأ عقب اللحظات الأول بينه وبين أمه.. من يمكن أن يرضى بذلك؟!

ربما حرى بوزارة الصحة والسكان أن تعد إحصاء بعدد المواليد الذين تم توليدهم قيصرياً فى ذلك اليوم، مع البحث لهذا العام فقط، هل كان الأمر يستحق؟ ربما خطوة كتلك تسهم لسنوات عديدة قادمة فى أن يراجع الأطباء والآباء أنفسهم ألف مرة قبل الإقدام على جريمة كتلك تحت دعوى «تاريخ الميلاد المميز»، فى الواقع سحقاً لكل المواعيد إن كان الثمن فادحاً بذلك القدر!لم يعد الأمر يتعلق الآن بأن مصر من أعلى الدول عالمياً فى نسب الولادات القيصرية التى وصلت إلى أكثر من 70%، بحسب المسح الصحى القومى للأسرة المصرية عام 2021، ولكنه صار يتعلق بجرائم أبعد وأكثر قُبحاً تتعلق بالتلاعب بصحة المواليد وربما حياتهم كاملة، مع ضغط غير طبيعى على المرافق الطبية المضغوطة بطبعها، من دون داعٍ فى كثير من الحالات، فاتورة يدفع ثمنها أطفال بلا حول ولا قوة، وعائلات من قوتها حيث يبلغ ثمن البقاء فى الحضّانة ألفى جنيه فى اليوم على أقل تقدير، وتدفع ثمنها الدولة من مرافقها، وأدواتها، لكن لأجل مَن، ولصالح مَن؟!