القانون يحفظ سمعة العائلة
في جلسته العامة المنعقدة يوم الأحد الموافق التاسع والعشرين من شهر ديسمبر 2024م، بدأ مجلس النواب المصري في مناقشة مواد مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد، الذي أعدته اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية.
وفي هذه الجلسة، ناقش المجلس مواد الإصدار والمواد من 1 إلى 31.
ولعل أهم المواد التي أثارت نقاشا في هذه الجلسة هي المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية، والمتعلقة بقيد الشكوى، وذلك فيما تضمنته من استلزام تقديم شكوى في جريمة زنا الزوج وزنا الزوجة.
وتنص هذه المادة على أن «لا يجوز رفع الدعوى الجنائية أو اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق فيها إلا بناء على شكوى شفهية أو كتابية من المجني عليه، أو من وكيله الخاص، إلى النيابة العامة أو إلى أحد مأموري الضبط القضائي في الجرائم المنصوص عليها في المواد 185، 274، 277، 279، 292، 293، 303، 306، 307، 308 من قانون العقوبات، وكذلك في الأحوال الأخرى التي ينص عليها القانون.. ولا تُقبل الشكوى بعد ثلاثة أشهر من يوم علم المجني عليه بالجريمة وبمرتكبها ما لم ينص القانون على خلاف ذلك».
والواقع أن هذه المادة من مواد مشروع القانون تتطابق حرفيا مع نص المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية السارى حاليا رقم 150 لسنة 1950م.
وقد أثار نص هذه المادة في التطبيق العملي وأثناء مناقشته في مجلس النواب العديد من التساؤلات والإشكاليات؛ بعضها ذات صبغة دستورية وشرعية، والبعض الآخر يتعلق بأصول التشريع، وثالثها يتعلق بأصول التفسير، لا سيما إمكانية اختلاف علة الحكم وأساسه الفلسفي في النظام القانوني الوطني عن العلة والأساس الفلسفي له في النظام القانوني الذي استمد منه هذا النص.
وقد تثير هذه المادة التساؤل أيضا حول مدى جواز قيام الأفراد بالإبلاغ عن جرائم الشكوى قبل تقديم شكوى من الزوج ضد زوجه الزاني.
وقبل التعرض لهذه الإشكاليات والتساؤلات، نرى من الملائم أن نذكر أولا أن مناقشات اللجنة المشتركة أوضحت أن هذه المادة تعالج مسألة الشكوى كقيد على النيابة العامة في مباشرة اختصاصاتها، والقاسم المشترك في هذه المواد التي تم تقييد سلطة النيابة العامة فيها بتقديم شكوى هو أن تلك الجرائم تمس مصلحة المجني عليه أكثر مما تمس مصلحة عامة، وبالتالي المشرّع قيّد سلطة النيابة العامة بشكوى من المجنى عليه.
وقريبا من ذلك، تقول محكمة النقض في شأن اشتراط الشكوى في الزنا: «إن جريمة الزنا ليست إلا جريمة كسائر الجرائم تمس المجتمع لما فيها من إخلال بواجبات الزواج الذى هو قوام الأسرة والنظام الذي تعيش فيه الجماعة، ولكن لما كانت هذه الجريمة تتأذى بها في ذات الوقت مصلحة الزوج وأولاده وعائلته فقد رأى الشارع في سبيل رعاية هذه المصلحة أن يوجب رضاء الزوج عن رفع الدعوى العمومية».
وبناء على ذلك، وأثناء مناقشة المادة سالفة الذكر في الجلسة العامة لمجلس النواب، طالب أحد النواب بحذف الزنا من جرائم الشكوى، مطالبا بأن تكون -على حد قوله- من جرائم الإبلاغ وليست من جرائم الشكوى، ومستدلا على وجهة نظره بأقوال الفقهاء فيما يتعلق بمساس هذه الجريمة بالمجتمع، ومؤكدا بالتالي أنها لا تقع إضرارا بالزوج فحسب، ولا يسوغ بالتالي -من وجهة نظره- أن تكون من جرائم الشكوى.
وردا على ذلك، أشار فضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة إلى أنّ الشريعة الإسلامية تدعو إلى الستر وعدم الخوض في الأعراض، مستدلا على ذلك بواقعة الصحابي ماعز بن مالك الأسلمي، الذى اعترف بالزنا فرُجِم، وقال عنه الرسول: «لقد تاب توبة لو تابها طائفة من أمتي لأجزأت عنهم».
وروى أن صحابيا يُدعى «هزَّال» هو الذي دفع «ماعز» إلى الاعتراف بالزنا، فلما أصرَّ «ماعز» على الاعتراف، رجمه الرسول، لأنه كان محصنا، لكن النبي لم يَدَعِ الأمر يمرُّ دون أن ينصح «هزَّال» -والأمة من بعده- قائلا: «وَاللهِ يَا هَزَّالُ لَوْ كُنْتَ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ كَانَ خَيْرا مِمَّا صَنَعْتَ بِهِ».
ومن ناحية أخرى، وإذا كان البعض قد قال أثناء المناقشات إن اشتراط الشكوى في جريمة الزنا لا يمنع من تحريك الدعوى إذا شكل الفعل وصفا إجراميا آخر، فإن اعتبارات الدقة تقتضى القول بوجوب التفرقة بين حالات التعدد المعنوي وحالات التعدد المادي للجرائم.
بيان ذلك أنه إذا تحقق التعدد المعنوي بين جريمة يتطلب القانون فيها الشكوى وأخرى لا تتطلب الشكوى فيها، فإن قضاء محكمة النقض مستقر على امتداد قيد الشكوى إلى الفعل بأوصافه جميعا.
وتطبيقا لذلك، إذا ارتكب الزنا في علانية، لم تجز -دون شكوى- إقامة الدعوى من أجل جريمة الفعل الفاضح العلنى. إذ البحث في هذه الجريمة مقتضٍ حتما التعرض للزنا، إذ منه تستخلص صفة الإخلال بالحياء، وهو ما لا يريد الشارع الخوض فيه إلا إذا قدم الزوج المجنى عليه شكواه (نقض 8 ديسمبر سنة 1959م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 10، رقم 204، ص 992).
وقد اعتبرت المحكمة من قبيل التعدد المعنوي أن يتهم شريك الزوجة الزانية -بالإضافة إلى الزنا- بجريمة الدخول في منزل بقصد ارتكاب جريمة فيه، ومن ثم يمتد القيد إلى هذه الجريمة كذلك، إذ «البحث في ركن القصد في هذه التهمة يتناول حتما الخوض في بحث فعل الزنا، وهو ما لا يصح رفع الدعوى به إلا بناء على طلب الزوج» (نقض 6 مارس سنة 1922م، مجموعة القواعد القانونية، جـ 2، رقم 97، ص 148؛ نقض 23 ديسمبر سنة 1935م، مجموعة القواعد القانونية، جـ 3، رقم 417، ص 526).
أما إذا تحقق التعدد المادي بين جريمة يتطلب القانون فيها الشكوى وأخرى لا يتطلب فيها، فإن قيد الشكوى لا يمتد إلى هذه الأخيرة؛ فإذا اشتركت الزوجة وعشيقها في تزوير عقد زواج لإخفاء جريمة الزنا التي ارتكباها، جاز للنيابة العامة إقامة الدعوى عليهما من أجل الاشتراك في التزوير، ولو لم يقدم الزوج شكوى من أجل الزنا (نقض 8 ديسمبر سنة 1959م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 10، رقم 204، ص 992).
وإذا اعتادت الزوجة ممارسة الدعارة، وأدارت محلا للدعارة، جاز إقامة الدعوى عليها من أجل هاتين الجريمتين، ولو لم يقدم زوجها شكوى من أجل جريمة الزنا المرتبطة بالجريمتين السابقتين ارتباطا لا يقبل التجزئة (نقض 15 فبراير سنة 1965م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 16، رقم 28، ص 124).
وأخيرا، وإذا كانت الشكوى تختلف عن البلاغ، وعلى الرغم من أن قيد الشكوى مانع فحسب من «رفع الدعوى الجنائية أو اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق فيها»، ويجوز بالتالي جمع الاستدلالات قبل تقديم الشكوى، فإن هذه القاعدة لا تسري على جريمة الزنا، بحيث يحظر اتخاذ أي إجراء من إجراءات الاستدلال بشأن هذه الجريمة إلا بعد تقديم الشكوى من الزوج.
والأمر ذاته ينطبق على جريمة الزنا المتلبس بها، بحيث يحظر اتخاذ أي إجراء من إجراءات جمع الأدلة، إلا بناء على شكوى من الزوج المجنى عليه.
وقد كان هذا الموضوع محل تساؤل في مجلس النواب في العصر الملكي عند مناقشة مشروع قانون الإجراءات الجنائية الساري حاليا، وذلك بمناسبة البحث في الفقرة الثانية من المادة التاسعة من هذا القانون، وما إذا كان جائزا تطبيق حكم المادة 39 على جريمة الزنا المتلبس بها، حيث أجاب مندوب الحكومة عن هذا التساؤل بالنفي.
واستثناء الزنا هنا أيضا يرجع إلى ما لهذه الجريمة من طبيعة خاصة، تقتضي التستر على الأعراض بقدر الإمكان. وعلى هذا النحو، يبدو جليا من الضروري إبراز هدف التستر على الأعراض عند الحديث عن قيد الشكوى في جريمة الزنا.
فلا يصح القول إنّ جريمة الزنا هي في الحقيقة والواقع جريمة في حق الزوج المثلوم شرفه.
وبعبارة أخرى، ينبغي التركيز دائما على الحكمة التي تغياها المشرع من وراء قيد الشكوى في جرائم الزنا، وهو الحفاظ على العائلة وسمعتها، الأمر الذي يتفق مع هدف الشريعة الغراء في الستر وعدم الخوض في الأعراض.