مولانا الإمام الطيب.. إرث من العلم والحكمة والزهد

سعيد حجازي

سعيد حجازي

كاتب صحفي

من ذا الذي لا يحب «الإمام الطيب»؟، أعترف أني كنت في غفلة عن هذا الكنز النفيس - سامحنا الله عن ذلك - مولانا الإمام الاكبر الدكتور أحمد الطيب، متعه الله بالصحة والعافية، حكيم صوفي ومفكر إسلامي من الطراز الرفيع، يميل دائما للحوار والتسامح، صاحب مسيرة عطرة قائمة على خدمة الإسلام والمسلمين، خطيب مفوه، لا فض فوه، كلما تحدث يفيض علينا بالعطاء الإلهي، مُجدِّدًا لعلوم الأمة الإسلامية، وحاملًا لواء التيسير؛ بما ينفع الناس، ويحقق مصالحهم؛ دون تنكُّر للدين ومُسلَّماته، هذا العالم العلامة الحبر الفهامة يذكرنا بشيوخ عظام وعلماء أفذاذ راسخين حفروا أسمائهم في سجلات تاريخ الإسلام.

أحببت مولانا الإمام أحمد الطيب وأُعجبت بنشاطه الدؤوب في نشر الفكر الإصلاحي المعتدل. فهو لا يميل إلى التشدد في الدين، ولا يقبل التفريط فيه، وإنما يتبنى منهج الوسطية الذي يُعدّ في نظره جوهر تميّز الدين الإسلامي. جسّد الإمام الطيب المنهج الأزهري الوسطي الأصيل بكل أبعاده، من إعمالٍ للعقل، وقبولٍ الآخر، وانفتاحٍ على الحضارات والثقافات المتنوعة. نجح هذا الإمام المُجدد، الفيلسوف، برجاحة عقله، وحُسن منطقه، وعمق فهمه، في توجيه بوصلة الأزهر الشريف نحو رسالته الأصيلة، حيث العقيدة الأشعرية، والمذاهب الفقهية الرصينة، والتوجه الصوفي المشرق. كما أنه لم يتوانَ عن الدفاع عن العقيدة الأشعرية في مواجهة دعاة الغلو والتطرف، خاض معاركه الفكرية بشجاعة، وصان للأزهر الشريف مكانته وريادته.

حرص مولانا الإمام الأكبر على اضطلاع الأزهر الشريف بدوره الرائد عالميًّا، بما يؤدي رسالته في أنحاء العالم على أتمِّ وجهٍ، في عالم يموج بالتحديات، أولى أهمية كبرى للحوار بين الحضارات والثقافات والأديان المختلفة، مع الإيمان بخصوصية كل منها وضرورة احترام الاختلاف بين الأمم واتباع الديانات، وهب حياته لنشر ثقافة التعايش والسلام والاندماج الإيجابي والأخُوة الإنسانية، دعا إلى نشر فكر إسلامي معتدل يساهم في تصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام في الإعلام الغربي، واشتبك مع القضايا المُجتمعية والدولية بما يدعم السَّلام والأُخوة والعدالة، ما جعله يحظى بمكانة رفيعة في العالم العربي والإسلامي وعلى الساحة الدولية.

كان الإمام الأكبر - ولا يزال- مثالًا «للإمام الإنسان» الذي حمل رسالة الإنسانية بكل صدق وإخلاص. وقف بجانب الضعفاء والمحتاجين، يواسي آلامهم ويدافع عن حقوقهم، وجعل من الأزهر الشريف منبرًا عالميًا لنصرة القيم الإنسانية ونشر التسامح. في عهده، تحول الأزهر إلى رمز عالمي للوسطية والاعتدال، حيث عمل على نشر مبادئ السلام والتعايش المشترك بين الشعوب. اتخذ من الحوار مع الآخر منهجًا، مؤمنًا بأن الإسلام رسالة رحمة وسلام، وكرّس جهوده لمواجهة كل أشكال الغلو والتطرف، ليظل الأزهر منارة مضيئة للإنسانية جمعاء.

أسس فضيلته مرصدًا عالميًا لمكافحة التطرف، ومركزًا للفتوى الإلكترونية بأكثر من لغة، بهدف الرد على الفتاوى المتشددة وتصحيح المفاهيم المغلوطة. عمل على تعزيز الحوار بين الأديان من خلال شراكته مع قداسة البابا فرنسيس، التي تُوجت بالتوقيع على وثيقة الأخوة الإنسانية، لتصبح علامة فارقة في تعزيز السلام والتقارب بين الشعوب. دعم فضيلته الطلاب الوافدين من أكثر من 110 دول، وحرص على توفير بيئة تعليمية وثقافية تسهم في إعدادهم ليكونوا سفراء للفكر الوسطي في أوطانهم. كما أسهم بشكل كبير في نشر الفكر الأزهري المعتدل عبر إنشاء فروع للمنظمة العالمية لخريجي الأزهر في 20 دولة، ما عزز دور الأزهر كمحور للتنوير والإصلاح على المستوى العالمي، ورسّخ مكانته كمنارة علمية وإنسانية تجمع بين الأصالة والمعاصرة.

أحمد محمد أحمد الطیب الحسَّاني، ابن مدينة القُرنةِ بالأقصر في صعید مصر، حيث النشأة الصالحة في بيت صوفي عريق ونَسَبٍ هاشِميٍّ عَلَوِيٍّ شريف، یعود نَسَبُه الشريف إلى سیدنا الحسن بن علي بن أبي طالب رضي لله عنهما، وإلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هناك تبلورت شخصيته، لتكون قائمة على العِلمٍ والصلاحٍ وعلامة بارزة لفكر التصوف والزهد، حَفِظَ القرآنَ وقرأَ المتونَ العلمیَّةَ على الطریقةِ الأزهریَّةِ الأصیلةِ، تلقَّى العلمَ على یدِ كبارِ علماء الأزهر، ومنذُ صِغَرِه كان حريصًا على حُضورِ مجالسِ العلماء والصالحین، وتعلُّمِ أصولَ التربیةِ والسلوكِ والحكمةِ في الطریق إلى لله.

على يد جدُّه الشیخُ أحمد الطیِّب، ووالده الشیخ محمد الطیب تربى الإمام الأكبر في «ساحة الطیب»، على مساندة الضعفاء ومناصرة الفقراء وإقرار السلام ونشر مبادئ التسامح والتعايش مع الآخر، فخرج للعالم مملوء بحب الإنسانية، كان مشاركًا ومحققًا في مجالس المصالحات وفض النزاعات مع والده وأشقائه، ولا یزال حتى الآن یشارك شقيقه الأكبر الشیخ محمد في هذه المهام النبیلة.

رغم مكانته الرفيعة، يحرص الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب على التمسك بحياته البسيطة وأصالته المتجذرة. لا يزال يقيم بمفرده في شقته المتواضعة بالقاهرة، بينما تعيش أسرته في القرنة بمحافظة الأقصر، محافظًا على ارتباطه بجذوره الاجتماعية، ومتمسكًا بعلاقاته الإنسانية رغم كثرة مسؤولياته الرسمية. وبرغم هذه المكانة المرموقة، يظل زاهدًا في المناصب والمكاسب المادية؛ فقد امتنع عن تقاضي راتب من منصبه كشيخ للأزهر، وتنازل عن العديد من المخصصات المالية التي خصص جزءًا كبيرًا منها لدعم المشروعات الخيرية.

تبرع بقيمة «جائزة زايد للأخوة الإنسانية»، التي منحته إياها دولة الإمارات العربية المتحدة تقديرًا لجهوده في نشر السلام وتحقيق الأخوة الإنسانية، لبيت الزكاة والصدقات المصري، وصندوق تحيا مصر، ومستشفى شفاء الأورمان لعلاج سرطان الأطفال بالأقصر. كما ساهم في سداد ديون الغارمين والغارمات، وتعويض ضحايا السيول والكوارث الطبيعية، إيمانًا منه بأن خدمته للإسلام والإنسانية واجب لا ينتظر عليه أجرًا سوى من الله.

تستحضرني أيضًا أمنيته الشهيرة التي عبّر عنها خلال لقائه طلاب العلم بمركز دراسات القرآن الكريم في جاكرتا بإندونيسيا، حين قال: «لا تزال أقصى أماني حتى اليوم أن أترك مكاني وأذهب وأفتح كتابًا وأحفظ التلاميذ القرآن الكريم، وأتمنى أن يحقق الله لي هذا الأمل قبل أن أموت.. فأنا على استعداد لأن أترك كرسي المشيخة لأجلس على حصير وأعلم التلاميذ وأحفظهم القرآن الكريم». وفي ذكرى ميلاده التاسعة والسبعين، يظل الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب متربعًا على عرش إمامة أهل السنة والجماعة، منارةً للعلم والحكمة، ورمزًا للعطاء بلا حدود. نسأل الله أن يحفظه، ويمنحه الصحة والعافية، ويبارك في جهوده المخلصة لخدمة الإسلام والمسلمين.