الرؤية المصرية والقارب الواحد

محمد صلاح

محمد صلاح

كاتب صحفي

ظهر في الآونة الأخيرة تيار سياسي يتحدّث عن العلاقات بين مصر والإدارة السورية الجديدة، ورغم تكرار البيانات الرسمية المصرية عن احترام إرادة ورغبات الشعب السوري، فإنّ هذه الآراء ما زالت تلقى رواجا في السوق السياسي العربي، وتصر على عرض نصف الحقيقة فقط بغرض شق الصف العربي وإشاعة الكراهية بين أبناء الأمة الواحدة، والغريب أن يحدث ذلك في هذا التوقيت الحرج من عمر الشرق الأوسط، والذي يقف منتظرا مصيره المجهول والمعتم والغامض، حيث لم تظهر بعد نقطة ضوء في نهاية النفق المظلم الذي دخلته المنطقة مطلع الألفية الحالية ولم تخرج منه بعد!

دعونا نتفق في البداية على أن العلاقات بين الدول ليست كالعلاقات العاطفية، ولا يجب ولا يصح أن تقيم المواقف السياسية بالعواطف وحدها، كما يجب على من يلوم مصر لاتخاذها قرارات كثيرة لحفظ أمنها القومي أن يراجع التاريخ ويرى كيف قدّمت مصر للأشقاء السوريين طوال أزمتهم الطويلة ما لم يقدمه بلد آخر، ورغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها، فقد حرصت على استضافة ملايين الأشقاء السوريين بلا تمييز بينهم وبين أشقائهم المصريين، واحتضنتهم ولم تبخل عليهم بمواردها ولا برعايتها، وحرص المصريون على تقاسم كل شيء معهم بمحبة ورحابة صدر.

والحقيقة أن من يتبنّون هذا الرأي ينظرون إلى الحقيقة بعين واحدة، يرون القشة في عين مصر ولا يرون الشجرة في عين غيرها، يتساءلون عن القرارات ويتجاهلون الأسباب التي أدت إليها، كما يتجاهل داعمو هذا الرأي قضايا أكثر أهمية وإلحاحا، مثل تجنيس المقاتلين الأجانب أو تهميش مختلف الطوائف والأعراق السورية، فضلا عن استضافة عدد من المطلوبين أمنيا والمدانين بارتكاب أعمال إرهابية، وتجاهل التوجّهات الإعلامية والتحريضية ضد الدولة المصرية، وهي ليست حرية رأي أو تعبيرا قدر ما هي مخططات تُدار بعناية للنيل من مقدرات مصر ومواردها، بل ووجودها أيضا!

لا يخفي على أحد أن الإدارة السورية تحظى برعاية ودعم إقليمي ودولي واسع لأسباب لا مجال لشرحها الآن، كما لا يخفى أيضا أن المصلحة المشتركة لعدد من اللاعبين في الملف السوري تتطلب بقاء الوضع في سوريا كما هو عليه الآن، لكن هذا كله لا يساوي شيئا في ميزان الشرعية الدولية، فهذا الدعم ليس بديلا عن القانون، وليس كافيا للاقتناع بتصريحات وردية تخرج من واقع أسود، مهما تعالى الصوت والتهبت المشاعر لن يقتنع أحد بأن استئثار فصيل واحد بالسلطة ديمقراطية، وأن الصمت على ضياع مقدرات وموارد الشعب السوري تعاطف، وأن ابتلاع إسرائيل للأراضي والأنهار ومنابع المياه سلام واستقرار!

إن المواقف المصرية من القضية السورية في جميع مراحلها دائما ما تأتي متوافقة مع القانون الدولي، ومع ما تمليه عليها مسؤوليتها الوطنية والأخلاقية بوصفها الشقيقة الكبرى لكل العرب، تحترم مصر خيارات الشعب السوري، ولم تبحث في أيٍّ من القضايا الدولية والإقليمية عن مصالح خاصة، ودائما ما تحرص على الانحياز للحوار الجاد والهادف والبنّاء مع كل الدول والشعوب الشقيقة!

واليوم، ونحن نرى ما حذّرت منه مصر مرارا في ما يخص كل الصراعات الإقليمية يتحول إلى أمر واقع نعيشه ونحياه، وبعد أن بدأ البعض في التيقن من أنّ الرؤية المصرية وحدها هي التي تتحقّق على أرض الواقع، هذا أدعى لكي يستمع الجميع إلى صوت مصر العاقل، ويتفهموا نصائحها قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الندم، ويدركون أنّ شعوب المنطقة اليوم في قارب واحد، وأن حرب الوجود التي نخوضها اليوم تستهدف الجميع، ولا نملك خيارات فيها كعرب سوى الوحدة والتقارب.