بركان من حمم.. وإخوان

لقد تعبنا.. هرمنا.. اشتعل الرأس شيباً، وارتفع سعر الصبغة حتى صارت من السلع الترفيهية، لا يدرك أحدهم ذلك الثمن الباهظ الذى ندفعه يومياً لنبدو على ما نبدو عليه، فبينما أنت ترانى فى عنفوانى وتألقى ونضوجى، أهديك حقيبتى لتطلع على مقومات هذا المظهر من مساحيق وصبغات وفولتارين ودهانات موضعية، ولا بأس من أقراص مسكنة بحدود طبية حتى لا تزيد قرح المعدة ولا ينهار القولون مجدداً.

هذا أنا، وأنتِ وكلنا، كل بنات حواء اللائى اخترن الصعب، لا يكذبن ولا يتجملن، يحاربن فى أرض لم تكن لهن، «مالنا ومال إثبات الذات»، نحن فى معركة أكبر، إثبات الحياة من الأساس، بعد عقود من الوأد، للحياة والأفكار والطموح، آن لنا أن نتنفس، أن نشم هواء نقياً غير ملوث، حتى لو حاول البعض النفخ فيه بثانى أكسيد كربون أحقادهم، سنظل أوفياء للفكرة الأم، أن على الأرض ما يستحق الحياة، وأننا فى الصفوف الأولى فى كل حرب، وأننا للمجتمع مثل الأرض للبشر، منها وإليها نعود، وأننا معيار تصنيف لكل أمة، أوضاعنا تنم عن مدى ما تحقق لها من تحضر ورقى وتنمية، وتراجعنا إلى الصفوف الخلفية -خلف جدار أو نقاب- هو جزء من تراجع هذه الأمة إلى ما يليق بها من «درك».

فى التاسع من يناير نحتفل فى «الوطن» بالذكرى الـ12 للملف الصدمة الذى وضع حدوداً لعلاقة الصحيفة بالتنظيم الذى سطا على الحكم فى مصر، السطو كان بإرادة المصريين واختيارهم «المر» بين سيئ وأسوأ، هنا النتيجة تصبح «إذعاناً» وليس اختياراً، وفى الفارق بينهما كتب القانون كلمته.. صدر الملف تحت عنوان تخيلى فانتازى «الوطن إذا تأخون»، اتسعت الرؤية فيه وحلّق الخيال والاستشراف وتحليل المعلومات والسياقات لتخرج النتيجة المذهلة، صورة تخيلية مصغرة لكل ما مرت به مصر خلال عام الحكم الأسود، تنبأ الملف بأحداث قبل أن تقع بالفعل، وسيناريوهات لتعامل التنظيم الإرهابى مع فئات المجتمع، وفى القلب منهم «المرأة والمسيحيون» تحديداً.. اقتصر دورى فى الملف على تقارير صحفية استشرافية تبرز دور المرأة فى التنظيم، ودورها فى مجتمع «الإسلام هو الحل»، ووضعها تحت السيفين وخلف نقاب الوجه وغطاء الرأس فرضاً وليس اقتناعاً، وموقفها وهى تطبق فتاوى إرضاع الكبير والصغير، ومستقبلها وهى مجرد وردة فى قائمة انتخابات حزبية تسن قوانين هدفها تمكين الرجل من المرأة فى الفراش، وليس تمكين المرأة فى مناحى الحياة.

كنت السيدة الوحيدة فى مجلس تحرير هذا العدد، وكانت الصورة الرئيسية التى تصدرت الصفحة الأولى مصنوعة قبل زمن الذكاء الاصطناعى، بأن اصطف الأساتذة والزملاء فريق تحرير الملف صفاً واحداً، وباستخدام تقنيات الفوتوشوب تم تزويد وجوههم باللحى والشوارب وزبيبة الصلاة فى منتصف الجبهة، بعضهم يمتلكها بالفعل، فزادها الفوتوشوب ظهوراً، أتذكر وقتها أن اختلافاً فى وجهات النظر حول وجودى فى الصورة الجماعية، هذا العدد صنعناه ونحن نتخيل أنفسنا أعضاء فى التنظيم الإرهابى، فهل التنظيم يضع المرأة وسط الرجال، ويعترف بأى دور لها حتى نحذو حذوه ونسير على خطاه؟.. هنا استقر الرأى على عدم وضع صورتى فى الصفحة الأولى، والاكتفاء بصورة المقال وقد تزينت هى الأخرى بخمار الرأس وتوقيع «أم يزيد البردينى»، على غرار القيادية بالتنظيم «أم أيمن» واسمها الحقيقى «عزة الجرف».

لا أعلم لماذا اشتعلت خانة الذكريات وألحت علىَّ بكل هذا، لكن ما أتيقنه أن كل ما يأتينا من سوريا من أخبار وتقارير وصور تذكرنى بهذا الملف، وبهذه الفترة، وهذه المرحلة، وحالة الخوف التى عشناها، أراها الآن تتجدد كلما سمعت أحدهم ينظر فى مسألة الموقف المصرى مما يحدث فى سوريا، صحيح أن للسوريين حق اختيار وتقرير المصير، مثلما كان للمصريين من قبلهم، لكن التحذيرات التى يمارسها المصريون لأشقائهم فى سوريا هى أيضاً حق، لنسمّه حق «الجيرة، العيش والملح، الدم العربى، ألا يدخل بيننا خائن».. فمن سار على طريق المخاطر لا بد له أن يضع علامات لتحذير القادم فيه، وصاحب التجربة دوماً يملك المستقبل الذى لا يراه القادم من الخلف، خاصة أن الإجراءات تكاد تكون واحدة، تقريباً لا تغيير فى السيناريو الموضوع، خطة من فرط استخدامها وفشلها لن يظن بشر أنها ستستخدم مرة أخرى، مثلما حدث فى كوميديا «لا تراجع ولا استسلام»، لكن المفاجأة أنها تكررت بحذافيرها بصورة لا يصدقها عقل.. مؤامرة تفشل فى دولة ما فنعيد تطبيقها بالخطوات نفسها فى دولة أخرى، وهو ما حدث ويحدث فى المشهد السورى الآن.

إننى على أتم الاستعداد أن أهدى نسخة خاصة من عدد «الوطن» التاريخى لأشقائنا صحفيى سوريا، ربما يحتاجونه لتنفيذ عدد صحفى مشابه، لكنه لن يخرج لديهم بصورة خيالية وفانتازيا، إذ إن الأحداث تطورت سريعاً وصارت كل المخاوف حقيقة، عادت النساء إلى البيوت، عفواً إلى المطابخ وهى أركان وأدوار أقل داخل البيوت، بحسب وعد وتصريحات وزيرة المرأة فى عروة جاكتة «الشرع»، عاد الدين والوطن لـ«الشرع»، بحسب تعديلات وزير التعليم فى حكومته الانتقالية، عاد للمسيحيين الخوف والرعب، فلم يستسيغوا أبداً ذلك الملتحى المسلح الذى ارتدى بدلة «بابا نويل» وراح يرقص فى الشوارع فى حماية جنود «النصرة»، عاد الرعب للشرق الأوسط وهو يحتضن فى قلبه بركاناً من حمم وإخوان.