سياسات ضرورية لمواجهة الفوضى الإقليمية
يظل عام 2011 تاريخا مفصليا في ما يخص الحالة الوطنية من وجوه كثيرة، ليس فقط لأنه العام الذي اندلعت فيه «انتفاضة يناير»، وما ترتب عليها من تغييرات حادة وأحداث جسام نعاين دروسها حتى اليوم، ولكن أيضا لأن الصيغة التي اعتمدنا عليها في بناء مقدّرات أمننا القومي انكشفت في هذا التاريخ، وأظهرت عجزا عن مجاراة الشروط والتحديات الراهنة.
لقد تم تصميم مقدرات أمننا القومي السارية حتى اليوم وفق شروط أملاها عصر ولّى، ورغم اتساع مفهوم مقدرات الأمن القومي لدولة مثل مصر، ليشمل الكثير من الجوانب المعقّدة والمركبة والفريدة في آن، فيمكننا الاكتفاء بذكر عدد من المرتكزات البارزة في هذا الإطار لجعل الأمر أكثر بساطة. وعلى سبيل المثال، فقد كانت السيادة الوطنية قادرة على بسط هيمنتها على المشهد الاتصالي، وعبر سياسات تأميم المجال الإعلامي وضبط الرسائل، لم يكن هناك قدر كافٍ من الانفلات الذي يُمثل تهديدا خطيرا.
لكن في 2011 عرفنا أن قواعد اللعبة تغيّرت تماما، إذ أدركنا سقوط القدرة على التحكم في المجال الاتصالي للدولة، ولم تعد هناك سيادة وطنية كاملة عليه، كما برز تهديد جديد لقوتنا الصلبة التي صُمّم إطار كفاءتها لمواجهة تهديدات تقليدية تمثلها دول معلومة الهوية، وظهرت تهديدات الحرب اللامتماثلة، التي تضافرت فيها قدرات تنظيمات أقل من الدولة، وجماعات إرهابية، ودول وأجهزة استخبارات، مكنتها التطورات الاتصالية من النفاذ إلى عمق الدولة والإضرار بأمنها.
ولأن الدولة بعد «30 يونيو» سعت إلى نهج «طريق الإصلاح»، ومن بين أدواته مراجعة أوجه الدعم، وعدم السيطرة على سعر العملة الوطنية، في ظل أزمة اقتصادية عميقة، فقد وجدت القوى المعادية ثغرة واسعة للنفاذ إلى وعي الجمهور، والمتاجرة بمعاناته، والمبالغة، والاصطناع، وصولا إلى التثوير والتحريض.
لم تعد مقدرات الأمن القومي محمية من محاولات زعزعة الاستقرار، ولم يعد التحريض والشحن صعبا، ولم تُسعف الوسائط السياسية نوايا الاحتواء المطلوب.
وفي الوقت الذي تنهض فيه مقدرات أمننا القومي الراهنة بردع التهديدات الخارجية عبر جاهزيتها الاستراتيجية ومقوماتها الصلبة ودرجة توازنها مع مصادر التهديد المحتمَلة، فإنّ التهديدات التي تستهدف الداخل ما زالت تطرح تحديات.
وبسبب طبيعة التهديدات التي تستهدف الداخل يجب أن تنشأ مقدّرات أمن قومي خاصة للتصدي لها، وهي مقدرات سيزول الحد الفاصل بين الاستراتيجي والتكتيكي فيها بطبيعة الحال، وسيتطلب تطويرها حسا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا بمثل ما سيحتاج مقاربات أمنية. وسيقودنا استطلاع تجارب الدول العربية التي شهدت تغييرات سياسية حادة، على مدى نحو 14 عاما، إلى عدد من النتائج التي تبدو مستقرة وغير قابلة للدحض، وأولى هذه النتائج تتمثل في أنّ قابلية الدولة الوطنية العربية للسقوط قائمة، أو على الأقل فإنّ سقوطها ليس أمرا مستبعدا، بصرف النظر عن ضخامة الأجهزة والمقدّرات الأمنية الصلبة التي تمتلكها، والشاهد على ذلك نجده ماثلا في تجارب دول مثل العراق واليمن وليبيا وسوريا والسودان ولبنان.
أما ثانية تلك النتائج فتتمثل في أنّ العامل الخارجي بدا حاسما وشديد التأثير في تحديد مستقبل الدولة الوطنية العربية، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا العامل يستخدم أدوات للتدخل تعتمد في الأساس على هشاشة الأوضاع الداخلية وعدم قدرة الحكومات الوطنية على تركيز الإصلاح ومقابلة توقعات الجمهور.
وتبرز النتيجة الثالثة في أن عددا من الدول العربية استطاعت أن تنجو من موجة التغيير التي اندلعت تحت ذرائع، بعضها مُستحق، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية والحكم الرشيد، وقد حدث هذا إثر موازنة دقيقة بين ضغوط الخارج وبعض السياسات الداخلية ذات الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وفي الوقت الذي تنهض فيه مقدرات الأمن القومي المصرية الراهنة بردع التهديدات الخارجية عبر جاهزيتها الاستراتيجية ومقوماتها الصلبة ودرجة توازنها مع مصادر التهديد المحتمَلة، فإن التهديدات التي تطال الداخل ما زالت جدية وخطيرة، لكونها تستهدف الوعي الجمعي والتماسك الأهلي والثقة العمومية ومعدلات الرضا عن الأداء العمومي، وتتجاوز نطاق الاستهداف المباشر الذي تقوم به قوة صلبة معادية، وتستخدم خليطا مدروسا من السياسات والأفكار والتكنولوجيا التي لا تعوقها قيود عن تحقيق أهدافها.
واستنادا إلى ذلك، فإنّ الدعوة إلى تطوير مقدرات أمن قومي خاصة للتصدي للتهديدات الجديدة، يجب أن تحظى بالاهتمام، على أن يتم النظر إليها بوصفها مقاربة تستلزم جهودا سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، بمثل ما ستحتاج تدابير أمنية.
فما زلنا في حاجة إلى صياغة جديدة لمقدرات أمننا القومي على الصعيد الداخلي، وهي صياغة يمكن أن تأخذ عنوانا على هذا النحو: «الانفتاح المُدار والإصلاح التدريجي».
وفي التفاصيل، فنحن نحتاج إلى منح الداخل درجة أكبر من الانفتاح المستند إلى نوع من التعدّد والتنوع، وزيادة مساحة التنافس السياسي الداخلي والتغيير المحسوب في الكوادر وأنماط الإدارة، مع درجة من القبول بمناقشة أكثر انفتاحا لمجريات الأداء العام وإخضاعه للتقييم.
سنكون مطالبين أيضا بالعمل على زيادة المناعة الوطنية ضد أنماط الاستهداف الخارجية القائمة والمتوقعة، عبر سياسات تسامح وانفتاح ذات طابع حقوقي وسياسي، يمكن من خلالها استيعاب التناقضات الثانوية في مسار العمل الوطني، وتعزيز الجبهة الداخلية في مواجهة مخاطر جديدة لا تزال تلوح في الأفق، ويجب ألا نتهاون أو نتغافل عن التصدي الناجع لها.