الشخصية المصرية (8).. الخزَّان
من ملامح الشخصية المصرية أنه خزَّان.. التخزين فطرته، منذ مصر القديمة كان المصرى «خزان»، يخزن الغالى والمحبب له، حتى فى اختياره العادى بين خبرين، يختار تخزين الخبر الحلو، القدماء يخزنون الذهب والمخصوص والبردى، يخزنون المومياء وما جمعه المصرى فى سنيه ومقامه، عبقرية التخزين تفتن كل من يفتش عن أسرارها، تفنن المصرى القديم فى التخزين، جعل حياته خبيئة زمكانية، من يفتش عن خزائن الأرض؟! من يفتش خزائن الأرض؟! من يسرق خزائن الأرض؟! إنها خبيئة المصرى وذاكرته.. الرجل القديم كان يعلم قدر الخبيئة والتخزين، ويعلم شره وحسد الآخرين منه، لذلك أبدع وتجلى وصنع آيات فى التخزين، صنع وابتكر الحيل وأتقن الخدع، لكى يحتفظ بالذاكرة.
نعم، إن التخزين ملمح أصيل فى الشخصية المصرية، الخزان هو الذاكر للأحوال، القدرة على التخزين قدرة ذاكرة، لولا الخازن ما ورثنا ذاكرة خالدة مستقرة، نصوص الأدب الفرعونى وصلت إلينا بآلية التخزين، الخازن مصرى محب، يخزن طاقته من العبث.. للطاقة حضور إلهى، الذاكرة طاقة تعبر الزمن، التخزين ملمح مصرى حفر ونقش وكتم، سرقة الخازن ونبش أحواله جريمة وثأر، والخازن لا ينسى ثأره، من يسرق الخزان يسرق كنزه ويسرق ذاكرته، ويهين مستقبله، التاريخ يكتبه اللصوص، التاريخ يكتبه النصابون، التاريخ يكتبه المعتدى، التاريخ يكتبه القاتل والمحتل والمزور والطامع، لكن تاريخنا يتوارث بالقلب بالذاكرة بالحياة بالطاقة، التاريخ يكتبة الخازن المصرى، مَن يحافظ على تراثنا يحافظ على مصرنا، مَن يدفن تاريخنا ويفنيه يُسحق فى تراب الخراب.
كما للتاريخ يد للخازن وملمح للشخصية المصرية، فللجغرافيا يد للخازن تتمثل فى جبال مصر ومعابدها، الخازن حمى المصرى ونصره على المعول والدفن، تجد فى البيت المصرى علبة وسحارة، تجد قفلاً ومغارة، تجد فى البيت المصرى بلاطة يُخفى تحتها كنزه، جواب ابنه فى الغربة، شريط كاسيت فيه نبض الحنين، صورة «منبشة» غير واضحة، فى حضن زجاج مكسور لتسريحة، مليم أحمر وتعريفة فى ضلفة دولاب، جلباب أبويا فى عب رف، سجادة بخيط رفا، سقف بعرق خشب، مدخل بيت تطل منه مشربية، طربوش أحمر وملاية وفلاية، زجاج معشَّق وسط سلم مهدم، ومرآة بإطار ظهر الجمل، قطعة من كسوة الكعبة، مخطوط فى كتاب مهمل، بلوفر تريكوه، صالون مذهَّب روميو وجولييت، أكلة قادوسية وغدوة جبنة ومش.
الخازن المصرى شاهد على الحرامى، اللى سرق حفلات أم كلثوم فى علب الجاتوه، الخازن المصرى شاهد على المجرم، وهو بيبيع أفلامنا ويقول مابعتش.
الخازن المصرى لا ينسى خزائنه، مهما نُهبت ونُبشت، لن يُقتل الخازن، يمكن سرقة الخزنة لكن الخازن يحمل ذاكرته، يحمل ملامح وتفاصيل كنزه، شطارة الحرامى هدم، وميزة المصرى بناء، السارق يسرق تفاصيل، لكنه لا يستطيع سرقة الأصل، تستطيع سرقة القطن، لكن لن تستطيع سرقة غزلنا، تكتب أن الملوخية فى كتابك.. لكن لا تستطيع أن تشهق مثل أمى.