إعادة تأسيس الجهاز الإدارى للدولة.. ضرورة وطنية (1 - 3)

على السلمى

على السلمى

كاتب صحفي

انتهينا فى مقال الأسبوع الماضى إلى ضرورة إعادة تأسيس الجهاز الإدارى للدولة على أسس ونظم فعالة، ولتوضيح التأثير السلبى للجهاز الإدارى للدولة على مسيرة الوطن من أجل تحقيق التنمية الشاملة المستديمة والعدالة الاجتماعية، دعونا نسترجع مؤشرات نجاح المشروعات التنموية التى تنفذها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة وجهاز الخدمة الوطنية، وما تقوم به مثلاً إحدى شركاته، وهى الشركة الوطنية لاستصلاح وزراعة الأراضى الصحراوية بشرق العوينات من استصلاح وزراعة آلاف الأفدنة، اعتماداً على المياه الجوفية، بالتركيز على زراعة المحاصيل الاستراتيجية، وكذلك أشجار الفاكهة، بالإضافة إلى أنشطة تربية وتسمين الأغنام والأبقار، وهى التوجهات ذاتها التى يسعى إليها مشروع استصلاح واستزراع مليون فدان كمرحلة أولى تُستكمل إلى أربعة ملايين فدان، وما يواجهه ذلك المشروع الذى تقوم بتنفيذه وزارتا الزراعة والرى من تعثُّر اقتضى تغيير وزير الزراعة السابق فى تعديل وزارى، ولم يحقق الوزير الجديد الحالى أى تقدم ملموس، فالعبرة ليست فى تغيير الوزراء، وإن كان ذلك التغيير ضرورياً فى أحيان كثيرة، لكن العبرة بقدرة أجهزة وزارات ومؤسسات الدولة التقليدية المترهلة التى تنوء بملايين الموظفين قليلى الكفاءة، مقارنة بالمؤسسة العسكرية التى تتمتع بالقدرة على الإنجاز، بإعمال نظم التخطيط العلمى واستثمار التقنيات الحديثة، فى إطار من الانضباط والحزم الإدارى، والأهم هو اختفاء مصادر الفساد!! وثمة مثال آخر، حين نقارن بين مستشفى 57357، وهو بعيد تماماً عن الجهاز الإدارى للدولة وما يتمتع به من مستوى متميز محلياً ودولياً ونشاطه العلاجى والبحثى وتأثيره المجتمعى المشهور، وبين مستشفى أطفال أبوالريش، وهو ضمن المنظومة الطبية لجامعة القاهرة، والمستوى الهزيل لخدماته العلاجية والبحثية. وبالمثل دعونا نقارن بين مركز مجدى يعقوب للقلب فى أسوان، وهو مؤسسة خاصة لا تعتمد على الدولة فى شىء، ومعهد القلب التابع لوزارة الصحة، وما كشفت عنه زيارة رئيس الوزراء منذ أسابيع قليلة عن تردى خدماته العلاجية، وسوء التنظيم وتردى الإدارة به. ويجب ألا نغفل المأساة الأخيرة لغرق مركب فى الوراق بنيل الجيزة وما كشف عنه الحادث من غياب شبه كامل لأى أنواع من الرقابة على ما يجرى بالمسطحات المائية، وانفلات أصحاب المراكب والصنادل وقائديها واطمئنانهم إلى الارتخاء التام لسلطة الدولة الموزّعة بين وزارات الداخلية والنقل والرى، وضياع المسئولية عن أرواح كل من يستخدم هذه الوسيلة السريعة فى الانتقال إلى الدار الآخرة والخلاص من الهوان الذى يلقاه المواطنون التعساء، طالما أن الدولة غائبة أو مغيّبة لا تتذكر هؤلاء القتلى إلا حين تصرف لأسرهم التعويضات. ولا شك أن هذه الحادثة الأخيرة تعيد إلى الأذهان الحكومية الصماء مأساة اصطدام قطار بضائع بأوتوبيس نقل طلاب عند مزلقان دهشور، ومقتل ستة وعشرين طالباً، ولا يزال الكوبرى الذى تقرر إقامته فوق المزلقان غير مكتمل منذ نوفمبر 2013، ولا يزال الخطر قائماً، ولا يزال فى القائمة المزيد من القتلى، ولا تزال وزيرة التضامن الاجتماعى ورئيس الوزراء يسارعان فى تقديم التعويضات للورثة التى تضاربت فيها الأقوال ما بين 20 ألفاً و200 ألف و60 ألف جنيه على عهدة رئيس الوزراء عقب مقابلته الرئيس، ليعرض عليه كيف ستمنع الحكومة الكوارث المقبلة، إن كانت قد منعت أياً من كوارث حدثت!! ومن أبرز دواعى إعادة تأسيس الجهاز الإدارى للدولة من قمته إلى قاعدته التباعد وضعف التنسيق بين وحداته، وعدم وجود رؤى مشتركة بين القيادات العليا لذلك الجهاز، ممثلة فى مجلس الوزراء والوزراء، والأمثلة على ذلك كثيرة، آخرها ما أعلن عن قرار رئيس الوزراء بإلغاء قرار وزير الزراعة بحظر استيراد الأقطان من الخارج، بعد أن كان وزير الزارعة أصدر قرار الحظر، وتم إعلانه قبل أيام من تدخل رئيس الوزراء! وقد أشارت مصادر إلى أن وزارة الصناعة والتجارة فوجئت بقرار وزير الزراعة، مع العلم أن الوزيرين عضوان فى مجلس واحد للوزراء، وأنها سعت إلى إقناع رئيس الوزراء بإلغائه، والمعنى أن وزارات الدولة تعمل فى جزر منعزلة لا يربطها رابط من خطة وطنية أو استراتيجية شاملة، ورغم إلغاء قرار وزير الزراعة فإنه وللعجب لم يتقدم باستقالة مسببة يرفض فيها إلغاء قرار يدخل فى صميم اختصاصه، بغض النظر عن صوابه أو خطئه! وثمة مثل آخر على التضارب وعدم التنسيق بين أجنحة الجهاز الإدارى للدولة على مستوى القمة، ما أعلنه رئيس الوزراء عن تأجيل تنفيذ قانون فرض الضرائب على الأرباح الرأسمالية فى تعاملات البورصة لمدة عامين، بعد عدة أشهر من تطبيق الضريبة وتحصيلها من الممولين، مما استتبع رد ما قد تم تحصيله فى ظاهرة غير مسبوقة فى مجال الإدارة الضريبية للدولة، وبعد تأكيد أن الضريبة كانت محلاً لدراسات ناقشها مجلس الوزراء وتقدم فى ضوئها للرئيس بمذكرة يطلب فيها إصدار قرار بقانون يفرض تلك الضريبة. وفى تلك الحالة أيضاً، لم يقدم وزير المالية استقالته من منصبه رغم استماتته فى الدفاع عن الضريبة المؤجلة، كونها فى رأيه دعامة أساسية لتنمية الحصيلة الضريبية التى كان يخطط لها، للمساعدة فى تخفيض مشكلة تنامى عجز الموازنة العامة!! إننا بحاجة ماسة إلى إعادة بناء جهاز الدولة الإدارى وتثوير مؤسساته ونظم الإدارة فيه وفق مبدأ رئيسى، هو إبعاد ذلك الجهاز عن أعمال التنفيذ وتقديم الخدمات للمواطنين، وقصر دوره على مهام التخطيط ورسم السياسات العامة لمجالات التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وتأدية الأعمال السيادية التى لا تجوز لغير الحكومة، ونقل جميع أنشطة تقديم الخدمات والتواصل مع جماهير المنتفعين بها إلى كيانات غير حكومية تعمل وفق منطق إدارى وتسويقى متطور لا تملك الجهات الحكومية القدرة ولا الكفاءة للقيام به. وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله، على أمل أن يقى الله مصر وشعبها من جهازها الإدارى!!