قصة الزوج العجيب

رحاب لؤي

رحاب لؤي

كاتب صحفي

لن أنسى تلك الجملة التي قالها لي طبيب أورام بالمنصورة، عن عائلة سألته صراحة عن نسب شفاء السيدة التي كشف عليها للتو، فأخبرهم أنّ احتمالات النجاة ضعيفة لكنها قائمة، قال لي: «نظروا إلى بعضهم بينما كانت السيدة يعتصرها الألم، ثم طلبوا منى أن أكتب أدوية ملطفة لتخفيف الألم». العائلة التي كان اليسر يبدو عليها، لم يرغب أطرافها، الزوج والأبناء، في بذل أي محاولة لعلاج السيدة التي حملوها ورحلوا، مع قرار حاسم بتركها لمصيرها ولسان حالهم: «هاتعيش إيه أكتر ما عاشت؟!».

ليست تلك هي القصة الوحيدة بين جنبات العيادات، خاصة تلك التي يتخصص أطباؤها في علاج الأمراض الخطرة. يتحول البعض، خاصة النساء، في مرحلة ما إلى «خيل» يتم ضربه بالنار فورا إذا مرض، تحت بند «الرحمة». العذر هنا عادة ما يكون: «مش هايكون موت وخراب ديار»، فـ«الموت علينا حق»، و«الأعمار بيد الله» و«اديني عمر وارميني البحر»، فما الذي قد يضيفه الطب إن كان الرب قد كتب النهاية؟

منطق وإن كان غير إنساني، فهو مقنع جدا للكثيرين ممن يحتفظون بمسنين ومسنات في منازلهم ينازعون الموت، فقراء كانوا أو أغنياء، كما هو الحال مع السيدة المذكورة، فقد كانت ثرية، لكنها لا تقدر على شيء، من سيذهب إلى البنك ويبحث عبر الإنترنت عن الطبيب المناسب، من سيحجز الموعد، ويعود ليتأكد، ويجد مواصلة مناسبة، أو يقود إلى الطبيب ويفهم المطلوب ويتخذ الإجراءات، يجول بين المعامل والمراكز لإجراء التحاليل والأشعة، ويبحث عن مدى توفر الأدوية، وربما يقود مسافة طويلة للعثور عليها؟ من؟!

تذكرت هذا كله وأنا أتابع قصة عادل عرفة، الرجل ذي اللحية البيضاء، الذي ضجّت الأخبار بذكر ما فعل، حين دفع قرابة الـ16 مليون جنيه من أجل تأسيس أول مستشفى لزراعة الكبد في الشرق الأوسط. قلت بالتأكيد مبالغة، ربما هناك مغالطة ما، أو ربما هذا إرث السيدة ومالها الخاص، أردت أن أفهم أكثر فتابعت مقطع فيديو للرجل وقت افتتاح المستشفى في محافظة الدقهلية بالمنصورة، لم أهتم سوى برؤية عينيه، ماذا تقولان حقا؟

القصة أنّ الزوجة التي شاركته حياته في السعودية، حيث عمل طوال حياته، التقطت عدوى من أحد المستشفيات، وتدهورت حالتها الصحية مع الوقت بعدما أصيبت بتليف في الكبد، ثم احتاجت لزراعة كبد، وجاءت إلى مصر من أجل إجراء الجراحة، لكنها وقبيل إجرائها أوصت الزوج بتأسيس مستشفى في محافظتهما لزراعة الكبد إن وافتها المنية.

10 سنوات معاناة مع مرض الكبد، انتهت بوفاة الزوجة، التي كان من الممكن أن يتزوج من بعدها الرجل بفتاة أصغر كثيراً، فهو يملك المال، والعمر، وبالتأكيد يرغب في «الونس» لكن المسألة لا تُحسب في كل مرة بهذه الطريقة الشائعة.

كان الحاج عادل يكافح كي لا يبكي، حين وقف يوم افتتاح المستشفى، كان يبتسم ابتسامة من وصل بعد معاناة، يسألونه: لماذا بنيت المستشفى؟ فيجيب فورا: «وصية الحاجة»، أعود لأنظر إلى عينيه، صدق عجيب، ووفاء نادر جدا جعله يبادر بوضع أساسات مستشفى على مساحة 680 مترا لعلاج وزراعة الكبد، مع إتاحة الفرصة لفريق طبي كبير وموهوب حقا في انتظار مساحة وإمكانات.

أعود لأتساءل: ربما هي أموالها! فيجيب الرجل فى مقطع الفيديو: «تكفلت بإلقاء الأساسات من مدخراتي في سنين الغربة»، هكذا إذا، مدخراته، ليس إرثا لها، ولا مالا متعلقا بها؟ ما الذي يمكن أن يجعل إنسانا يتكفل بعملية جراحية لزوجته تبلغ قيمتها المادية الآن أكثر من ثلاثة ملايين جنيه، ثم حين لا تنجح، يحاول من جديد، إنقاذ حيوات من يعانون كزوجته، بهذا القدر من اللطف والحب والتسامح؟!

أنظر إلى وجهه من جديد، وأثق في كل ما قرأت حول الوجوه وما تقوله من دون كلمات، هذا رجل صادق جدا، خاصة حين يصفها بـ«حبيبة قلبي» وضع مدخراته لـ30 عاما من أجل تنفيذ وصية شريكة عمره، هذا رجل عجيب بدأ الخطوة فعاجلته رئاسة الجمهورية بالتوجيه باستكمال وتشطيب المبنى على أكمل وجه، رجل بعث برسالة إلى زوجته يوم حقق وصيتها، قائلا: «النهارده يوم الوفاء، نفذت وصيتك ووصلت لمرحلة التنفيذ، عملت اللي عليا ابتغاء مرضاة الله، ربنا يتولانا برحمته».