الأخبار الزائفة مشكلة عالمية تستفحل
في العام 2017، قرر معجم «كولينز» للغة الإنجليزية أن تكون «الأخبار الزائفة» كلمة العام، بعدما رصد الباحثون القائمون على تطوير هذا المعجم الذي يحتوى على 4.5 مليار كلمة، زيادة تكرار ذلك المصطلح في الخطاب العالمي الشائع بنسبة 365% خلال سنة واحدة.
لكن الشواهد الدالة تخبرنا بوضوح أنّ مصطلح «الأخبار الزائفة» لم يكن كلمة العام 2017 فقط، لكنه أيضا أحد المصطلحات الأكثر انتشارا وتأثيرا على مدى السنوات السبع الفائتة بامتياز.
وفي بادرة ممتازة، رصد قسم التحقيقات في «دويتش فيله» الأسبوع الماضي، ما قال إنّه أبرز عشر إفادات زائفة هيمنت على الوسط الإخباري العالمي خلال العام 2024، الذي يشرف على الانتهاء، وهي إفادات سخرت لها موارد، وانتظمت من أجلها جهود، لكي تحقق إرادات ناشريها، وتخدم مصالحهم المشبوهة بطبيعة الحال.
ومن بين تلك الإفادات الكاذبة ما نُسب إلى المرشحة الخاسرة في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة كامالا هاريس، سعيها لـ«سرقة الانتخابات دفاعا عن الديمقراطية»، أو ما استهدف تعزيز فكرة «الإسلاموفوبيا» في ألمانيا، عبر نشر صورة مختلقة لما قيل إنه تجمع لأنصار «داعش» أمام كنيسة في نورنبيرج.
وثمة أيضا إفادة سعت إلى الإيهام بأنّ حاملة الطائرات الأمريكية «روزفلت» تتخذ طريقها إلى منطقة الشرق الأوسط، لتظهر انخراطا أمريكيا عسكريا مزعوما في الحرب الدائرة في المنطقة.
وفي الموضوع السوري، كان لافتا أنّ البعض استغل الأنباء التي ترددت عن اختفاء طائرة الرئيس السوري السابق بشار الأسد عن شاشات الرادار، فراح ينشر صورا لما قيل إنّه «سقوط طائرته»، وهو الأمر الذي استلزم بحسب «دويتش فيله»، استخدام صورة لتحطم طائرة تعود إلى العام 1952، والإيهام بأنّها لطائرة الأسد.
بعض الأخبار الزائفة، التي استفادت من تقنيات الذكاء الاصطناعي وأدوات التزييف العميق أيضا، كانت تستهدف ببساطة مناصرة تيارات اليمين المتطرف في الغرب، سواء كانت تخص التجمع الوطني اليميني في فرنسا، وقائدته مارين لوبان، أو حزب البديل المتطرف في ألمانيا، أو حملة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب.
والشاهد، أنّ للأخبار الزائفة تاريخا طويلا مع الحروب والصراعات وأعمال العنف والمنافسات السياسية، وفي إحدى صفحات هذا التاريخ ستبرز عبارات تفيد بأنّ المعلومات المضللة كانت أداة من أدوات القتال في عديد الأحيان، ووسيلة لإشعال أعمال العنف والاضطرابات في معظمها.
ولا يتعلق هذا التقييم بالبيئة الاتصالية المعقدة التي تسود راهنا، ولكنه يتعلق أيضا ببيئات اتصالية كانت أكثر بساطة وأقل تعقيدا؛ فقد وجد الباحثون، الذين درسوا تاريخ الحروب والنزاعات والاضطرابات وأعمال العنف، أن الأخبار الزائفة أو الشائعات كانت أحد عوامل إشعال تلك الأحداث، أو أحد مسوغات توسعها وامتدادها.
وربما يمكن القول إنّه لم تكن هناك إرادة لخوض قتال، أو إشعال فتنة، أو إذكاء اضطراب، من دون مساهمة واضحة من الأخبار الزائفة، التي كان عليها تهيئة البيئة النفسية اللازمة لفقدان الأمل في الحل، أو الذهاب إلى أقصى أفق للمواجهة، بما يضمن إدامة النزاعات وتأجيجها.
وفي مصر، برزت خلال الأسابيع القليلة الفائتة، وفي أعقاب تغير الأوضاع في سوريا لمصلحة «هيئة تحرير الشام» -التي تصنفها جهات عالمية عديدة كـ«منظمة إرهابية»- الكثير من الأخبار الزائفة التى سعت إلى الإيحاء بوجود اضطرابات أو تظاهرات، عبر تلفيق الصور ومقاطع الفيديو، أو استدعاء بعض الصور والمشاهد القديمة، وتوظيفها للإيحاء بأنها آنية.
لا يمكن التعامل مع مشكلة الأخبار الزائفة وما تطرحه من تحديات على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، من دون دراسة وافية لعاملين أساسيين أسهما بقوة في انتشارها وزيادة تأثيرها؛ أي «السوشيال ميديا»، والذكاء الاصطناعي.
فبفضل هذين العاملين، اللذين ينطويان أيضا على مزايا كبيرة وفرص رائعة، تكتسب الأخبار الزائفة طاقة كبيرة وقدرة فائقة على الانتشار والتأثير.
لقد تفاقمت تأثيرات الأخبار المغلوطة عبر «السوشيال ميديا» بسبب ما تمتلكه من أدوات إقناع أمضى وقدرات انتشار أوسع، كما رفدها الذكاء الاصطناعي بطاقة جديدة ذات أثر حاسم. ورغم صعوبة القضاء على تلك الظاهرة تماما، فإن هناك عددا من الخطوات التي يمكن باتباعها تحجيم أثر الأخبار الزائفة، ولجم الشائعات واحتواء مخاطرها، لأقصى درجة ممكنة؛ وهي خطوات لا تتضمن سن قوانين عقابية بالضرورة، لكنها تحتاج إرادة وعملا مدروسا مستديما، لكي تظهر نتائجها على المديين المتوسط والبعيد.
أولى هذه الخطوات تتمثل في حاجة الحكومات والمؤسسات والمجتمع المدني ووسائل الإعلام الجماهيرية إلى بذل المزيد من الجهد المعلوماتي، بحيث لا تكتفي فقط بنفي الأخبار الخاطئة، ولكن عليها أيضا أن توفر المعلومات السليمة من مصادرها الموثوقة باستمرار بخصوص الموضوعات والقضايا التي تقع ضمن اهتمامات الجمهور.
وإحدى هذه الخطوات تتعلق بضرورة إصدار أدلة مهنية لتنظيم التعامل مع المعطيات المتوافرة في «السوشيال ميديا»، وتوضيح طرق استخلاص الحقائق منها في حال كانت موجودة، فضلا بالطبع عن جهود التدقيق وتقصي الصحة التي تبذلها مؤسسات إعلامية، مثلما تفعل «دويتش فيله» أو «فرانس 24»، وغيرهما.
أما أهم تلك الخطوات فتتعلق بضرورة تعزيز المجال الإعلامي «التقليدي»، ومنحه ما يستحقه من حرية وتعدد وتنوع، لأن كل تراجع في هذا المجال يشكل فرصة للأخبار المغلوطة ويعزز الميل إلى التضليل عبر الوسائط الرائجة الجديدة، التي لا يمكن إخضاع أدائها للضبط والتقييم.