الشيخ مصطفى إسماعيل.. ملأ الدنيا وشغل الناس
القارئ الجليل، أعجوبة عصره، والموهبة الأزهرية الفذة، وقارئ الملوك والأمراء والفقراء، الشيخ مصطفى المرسي إسماعيل، وُلد بقرية ميت غزال 1905م، واستطاع أن يسلب العقول والقلوب بأداء عبقري مميز، فقد اصطاد الدرر واللؤلؤ، وقدمها للقارئ في ثوب جمالي بديع، وتربع على العرش في فن القراءة، ورسخت قدمه، وأضاء مصر والعالم بنور القرآن، وأخذ بمجامع القلوب، وشارك بتلاوته مع الأعلام الكبار، كـ«رفعت وصديق والشعشاعي والبنا وعبدالباسط»، في خلق سمعة طيبة لمصر، وما زالت المكتبات المصرية في حاجة إلى كتابات كثيرة عن هؤلاء الأعلام بما يناسب مكانتهم، كالذي كتبه كمال النجمي، ومحمود السعدني، ومحمود الطناحي، وهيثم أبوزيد.
لقد نزل الشيخ القاهرة، وسكن بالمنزل رقم 18 بحارة العناني بحي المغربلين، حيث العتاقة والتراث، وكانت القاهرة تموج بأصوات العظام من القراء، أمثال رفعت ومنصور بدار والشعشاعي ومحمد الصيفي (والد المخرج حسن الصيفي) ومحمد سلامة، وعلي حزين ومحمود عبدالحكم وعبدالعظيم زاهر والبهتيمي، وهاشم هيبة ومنصور الشامي الدمنهوري وطه الفشني.
يعقّب على ذلك الدكتور الطناحي فيقول: «جاء الشيخ مصطفى فكان مثل المتنبي الذى ملأ الدنيا وشغل الناس، وجاء بأفانين من النغم، وتصرفات جديدة في المقامات، وقد درج القراء على خفض أصواتهم في آيات الإنذار أو الموت، لكن الشيخ في قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ»، يرفع صوته عاليا في «ذَائِقَةُ»، ثم يقف على «الْمَوْتِ» بنفس الطبقة العالية في صراخ مزلزل كأنه صراخ ثكالى فقدن عزيزا، أو تذكرن غائبا، وتكاد التاء المهموسة في «الْمَوْتِ» حين يصرخ بها تنقلب إلى حرف مجهور يكاد يخرق صماغ الأذن».
وإذا كانت التلاوات المجودة للشيخ مصطفى إسماعيل قد أخذت حقها من الاهتمام والاستماع والإنصات لما فيها من درر ونفائس وتجليات، فإن المصحف المرتل الذي تبثه إذاعة القرآن الكريم للشيخ لم يأخذ حقه من إنصات وتأمل، بسبب عوامل متعددة، رصدها الخبير في هذا الفن الأستاذ هيثم أبوزيد، ثم قال:
«والختمة المرتلة للشيخ مصطفى على رواية حفص عن عاصم تمثل رحلة روحانية، وجدانية، طربية، بالغة التميز، كان الشيخ مصطفى هو القارئ الوحيد الذي وظف كل المقامات المستخدمة في التلاوة المجودة ليخدم بها ترتيله المتفرد، الأثرى نغميا بين المصاحف الخمس الشهيرة، وبعض هذه المصاحف دارت كلها حول ثلاث مقامات دورا تقليديا، وأكثرها خلا من مقامات مهمة، لكن في ختمة الشيخ مصطفى المرتلة سنجد: البياتي، والصبا، والحجاز، والراست والسيكا والنهاوند، والجهاركاه، والشورى، وهذا أمر غير مسبوق ولا ملحوق، ويمكن أن نختصر معالم منهج الشيخ في فكرة واحدة، تتمثل في تغيير الحالة الوجدانية للمستمع كل عدة دقائق، من خلال الانتقال من مقام إلى آخر، ليحيا في جو جديد يختلف ويتنوع بالتطوير الدرامي أحيانا، وبالتغيير النغمي أحيانا أخرى، فهو يقرأ بالمقام ما يتيسر له أن يقرأ، وقبل أن يكون هناك مجرد احتمال للشعور بالتكرار أو السآمة، ينقلب الشيخ إلى نغمة أخرى، وتلك اللحظات التغييرية من أمتع مواطن الجمال في المصحف المرتل للشيخ، وفي ترتيله لسورة هود، وتحديداً من الآية 25، تفجر الشيخ «المفكر» بطاقات تعبيرية وتطريبية، وتأنق في كل كلمة وقفلة، ولم يكن غريبا أن يعتبر بعض المستمعين ترتيل الشيخ لسورة هود بمثابة محفل من محافله التاريخية لهذه السورة».
وقد ترك الشيخ الكثير من الآثار المباركة، ويقوم المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية برئاسة فضيلة الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، والأمين العام للمجلس، الأستاذ الدكتور محمد عبدالرحيم البيومي، بنشر تلاوات نادرة للقارئ الجليل، إحياء لذكراه، وينشر موقع الوزارة والمجلس الأعلى نادرة من نوادر الشيخ متمثلة في رفع الأذان متبعا بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي أواخر ديسمبر 1987 غادر الشيخ قريته، متجها إلى دمياط للقراءة في افتتاح جامع البحر في حضور الرئيس السادات، وهناك قرأ تلاوته الأخيرة، وفي 26 ديسمبر 1987، فاضت روحه إلى بارئها، وحضر جنازتَه خلقٌ لا يحصون، لتوديع العالم الأنيق، وغشى القلوبَ حزن أسود كئيب، من هول الرزء - الفاجعة -، وفداحة المصاب، واتشّحت مصر بالسواد، وارتفع نشيج الباكين من المودعين، وشعر الجميع بلوعة حارقة، وانهمرت الدموع، وتدافع المشيعون حول موكبه يحملون نعشه، ومضى الركب إلى مثواه الأخير في ميت غزال بالغربية، وغابت دوحة القرآن الوارفة، وانطفأت بوفاته صفحة مجيدة من أعظم صفحات القراء في العصر الحديث، رحل الذي كان يسقي الناس جمال القرآن، وغاض النبع العذب، وصوَّح النبت المزهر، ومما خفف من هول الفاجعة، ورزء المصاب أن الله هو الذي دعاه ليكون في جنة الخلد بإذنه، وأنه رحل عن الدنيا لكنه نزل في القلوب، وسلام عليه في الخالدين.