الثقافة العالمية في عُهدة «المؤثرين»
في شهر فبراير الماضي، زرت معرض القاهرة للكتاب كما هي عادتي في كل دورة من دوراته، حيث أمكنني أن ألاحظ وجود طابور طويل يقف فيه عشرات من الفتيات صغيرات السن، وعدد من الفتيان اليافعين، ينتظرون جميعا أن يدلفوا إلى كشك صغير، لكي يحصلوا على توقيع كاتب يُباع كتاب جديد له في المعرض.
كان المشهد مُبهجا بكل تأكيد؛ إذ يبدو أنّ للثقافة جمهورا كبيرا بين اليافعين، وأنّ هؤلاء الأصغر سنا في مجتمعنا يهتمون بالقراءة، وشراء الكتب، بل بالحصول على توقيع كاتب الكتاب الذي يحظى بإعجابهم، لكن الإشكال تجسد حين سألت عن اسم هذا الكاتب؛ فتبين أنني لا أعرفه، وأن أحدا من معارفي وأصدقائي المهتمين بالحركة الثقافية والفكرية لا يعرفه أيضا.
كان هذا الكاتب «مؤثرا» مشهورا على مواقع «التواصل الاجتماعي»، ولأنه كذلك، وله متابعون بمئات الآلاف؛ فقد دُعي لتقديم البرامج على الوسائط «التقليدية»، ومع ذلك، فإنّ كتابه الذي حقق رواجا كبيرا لم يحظَ باهتمام الوسط الثقافي في تياره الرئيسي، ولا إعجابه وتقديره بطبيعة الحال.
لكن المغزى كان واضحا، ويمكن تلخيصه ببساطة في أنّ عصرا جديدا للكتابة بدأ، وهو عصر خلق نجومه ورموزه الخاصة، وقد أتى هذا العصر الجديد على أسنة رماح الوسط الاتصالي السائد والمهيمن، وفي القلب منه «مؤثرو» الوسائط الجديدة، بدينامياتها الفائقة، وشبكيتها النافذة، وقدرتها الهائلة على التأثير والانتشار.
قبل أربع سنوات، نشرت الباحثة ألكسندرا جوميز ورقة في «النشرة الدولية لبحوث الاتصال»، ومما كتبته في تلك الورقة أن كل تقنية اتصالية جديدة تُنشئ صورة جديدة للشهرة والتأثير وتقصي المكانة.
يعني هذا ببساطة أنّ معلقات الشعر الجاهلي، كما الكتب التي ازدهرت في عصر اختراع المطبعة، والمحتوى الذي ذاع في وسائل الإعلام الجماهيرية، كلها أتت عبر تقنيات اتصال أنشأت آليات لقياس الشهرة والتأثير وتعيين المكانة، بينما تأتينا تقنية الاتصال السائدة اليوم مُجسدة في وسائط «التواصل الاجتماعي» بخيار جديد أكثر مطاوعة لقياس التراتبية، وأشد تدليلا على ما تفرزه من «مكانة»، لكنه أكثر قابلية للخطل والتلاعب.
تجتهد تلك الورقة في أحد أهدافها لرصد ما وصفته بـ«ديناميكيات خلق الشهرة والمكانة الرقمية»، وتصنف اللاعبين في ميدان السعي إلى المكانة إلى مشاهير صغار (مايكرو)، ومشاهير كبار (ماكرو)، وصولا إلى المشاهير الأضخم (ميجا)، كما تُعين مقداراً يُقاس بعدد المتابعين والمتفاعلين على الأقنية الجديدة يمكن ببلوغه الانتقال من تصنيف إلى آخر.
ويعني تحقيق رقم معين من المتابعين والمتفاعلين والمعجبين في مضمار السعي إلى المكانة الرقمية تجسيدا مُحكما وحاكما لشهرة «المؤثر»، وهو أمر ينعكس تلقائيا في النفوذ والمكانة وتحقيق العوائد المالية.
واليوم بات نجوم الثقافة الجدد في هذا الوسط الاتصالي المهيمن أعضاء في فريق «المؤثرين الجدد»؛ أي هؤلاء الذين استطاعوا النفاذ في الوسائط الجديدة، والتموضع في أفضل مفاصلها، وامتلاك الملايين من المتابعين، من خلال ما يبثونه من محتوى يلقى رواجا، ويحشد معجبين.
أما هؤلاء المعجبون، فلن يكونوا فقط جمهورا مصطفا ومتفاعلا عبر الوسائط الجديدة، لكنهم سيصطفون في الطوابير أيضا لشراء كتب جديدة يكتبها هؤلاء «المؤثرون»، وهى ليست ككتب هيجل وكانت وموليير ونجيب محفوظ بالضرورة، لكنها كتب تحمل سمات هؤلاء «المؤثرين»، وتعرض «ثقافتهم» أو «جهلهم» أو طريقتهم لتحقيق الشهرة فى العالم الذى سبق أن عينته ألكسندرا جوميز.
واليوم، تشهد الساحة الثقافية الغربية دهشة كبيرة، وهي دهشة تفجر الجدل أيضا؛ إذ لاحظ الناشرون والنقاد المهتمون أنّ كتبا يكتبها «مؤثرون» جدد بلا جينات فكرية أو تاريخ ثقافي، تتصدر قوائم المبيعات، وتكتسح في طريقها أعمالا جادة وبالغة العمق والأهمية، وتقصيها عن أرفف المكتبات.
وفي فرنسا، كتب «مؤثر» يُدعى أنس بن عزوز رواية باعت 82 ألف نسخة في أربعة أيام، لتحتل المركز الأول في قائمة الأكثر مبيعا، متفوقة على الرواية التي فازت بجائزة «الغونكور» للعام الحالي.
ويتذكر الناشرون الفرنسيون أنّ أحد الكتب التي تصدرت قوائم المبيعات في العام 2015، كان عبارة عن سيرة ذاتية لـ«مؤثرة» تمتلك 6 ملايين متابع على «إنستجرام»، لكنها لم تبلغ العشرين من عمرها بعد، وقد أطلقوا عليها لقب «جوستاف فلوبير الجديد».
وفى بريطانيا باعت «المؤثرة» زوي سوج، التي تمتلك تسعة ملايين متابع على «إنستجرام» 180 ألف نسخة في أسبوع واحد من كتابها «فتاة على (الإنترنت)».
يقول النقاد الثقافيون الغربيون إنّ هذه الظاهرة غريبة ومثيرة للجدل؛ إذ تبيع كاتبة سيرة ذاتية لها بينما لم يتعدَّ عمرها العقدين؛ وتتنقل في كتابتها «الرديئة والفجة بين الأنا والفراغ»، وتعترف بأنّها لم تقرأ في حياتها كتابا إلا هذا الذي كتبته، والذي يحوى فقط آراءها الشخصية وتجاربها الحياتية!
باتت دور النشر تهتم بهؤلاء «المؤثرين الجدد»، وتذهب إليهم للتوقيع على نشر أعمالهم، التي ستجني أفضل الأرباح، ولن تحتاج تسويقا أو دعاية، لأنهم يأتون إلى الناشر وجمهورهم معهم، وهو جمهور بالملايين، جاهز لشراء الكتب، والاحتفاء بها.
إنه عالم جديد خلقته تلك الوسائط الشبكية الطاغية، وفيه ستبرز أسماء وتلمع نجوم على روافع المكانة الجديدة، التي صنعتها جحافل المتابعين، للمحتوى الجديد، الذي يراوح بين الآراء الذاتية والفراغ، ولا عزاء للكتاب والكُتاب.