أحمس في عين العاصفة

كاتب صحفي

ثقيلة هي التركة التي ورثها الملك أحمس عن أجداده، فقد وجد الملك الشاب نفسه مطالبا باستكمال الطريق الذي شقه سقنن رع وكامس نحو تحرير البلاد من الهكسوس الذين سخر منهم المصريون القدماء وأطلقوا عليهم الملوك الرعاة. 

امتدت سيطرة الهكسوس لتشمل الوجه البحري كاملا وشمال الوجه القبلي وتوقف نفوذهم عند مشارف المنيا، وفي أقصى الجنوب كان ملوك طيبة يحملون شعلة المقاومة فخاضوا معارك قاسية ضد المحتل وسقط سقنن رع في إحدى هذه المعارك ليكون بذلك أول ملك مصري يلقى حتفه في سبيل تحرير وطنه. 

تسلم أحمس الراية وعقد العزم على استكمال حروب التحرير والزحف نحو منف ومن ثم أواريس عاصمة الهكسوس الواقعة أطلالها في قرية تل الضبعة بمحافظة الشرقية. 

بدأت الاستعدادات للمعركة المصيرية، الجيش يؤدي تدريباته على ضفتي النهر، وفي هذه الأوقات الحاسمة تروي لنا لوحة عُثر عليها في معبد الكرنك ما حدث وغيّر دفة الأحداث.

«وبعدها جعلت الآلهة تأتي بسيل مصحوب بظلام دامس في الجانب الغربي، وتكاثرت الغيوم بلا توقف، ورعد صوته أعلى من صوت العباد، وصرير رياح فوق الجبال أعلى من صوت إلفنتين -جزيرة في أسوان- فدمرت كل بيت وقرية وصلت إليها، ومات من بها، وطفت أجسادهم فوق المياه كقوارب بردي، بل وصلت المياه إلى بوابات القصر وحجرات الملك الخاصة، واستمر ذلك لأيام، لم يستطع أحد أن يوقد شمعة في شمال مصر وجنوبها». 

يبدو أنّ مصر تعرضت لموجة من الطقس السيئ وصلت لحد الكارثة المناخية، واسترعى النص المدون على لوحة العاصفة أنظار الباحثين من الآثاريين وعلماء الجيولوجيا وخبراء المناخ فتناولوه بالبحث والتحليل فخرجوا علينا بنتائج ترجح أنّ هذه الموجة من السيول التي اجتاحت البلاد حدثت كأثر لثورة بركان جزيرة ثيرا اليونانية -سان توريني الحالية- ونتج عن هذه الثورة البركانية غبار وسحب وحمم بركانية غطت سماء حوض البحر المتوسط، ما تسبب في ظلام دامس حجب ضوء النهار. 

وهو ما ذُكر في لوحة الكرنك بالنص أنّه على مدى تسعة أيام لم يستطع وجه رؤية وجه آخر، وجزم علماء الجيولوجيا بحقيقة وصول حمم بركان ثيرا للأراضي المصرية بأن عثروا على أحجار زجاجية دقيقة الحجم على ضفاف بحيرة المنزلة، وبالمقارنة وجدوا أنّها تحمل نفس التركيب الكيميائي لنظيرتها في اليونان.

أمام هذه الكارثة المدوية وجد الجيش المصري وقائده أحمس أن مصر أصبحت في عين العاصفة، وصار لزاما على الجيش أن يتخلى مؤقتا عن مهمة تحرير الأرض ويتولى مهام الدفاع المدني لإزالة آثار العاصفة، فأبحر الملك ومعه مجلس من مستشاريه بينما الجيش منتشر على ضفتي النيل يوفر غطاء للناس، بينما جنود الجيش لا غطاء عليهم. 

هكذا كانت استجابة الجيش المصري وقائده لتحد كبير منذ ما يزيد عن ثلاثة آلاف عام، قائد جيش وملك يتولى بنفسه مهام إدارة الأزمة وإعادة الاستقرار، بينما الجند يوزعون الأغطية على الناس دون أن يكون لديهم ما يغطون به أنفسهم، تأسس هذا الجيش منذ آلاف السنين ليكون جيشا لمصر يدافع عن أمنها القومي وسلامة أراضيها، وفي أوقات الأزمات يتكاتف الجنود الذين يرتدون الزي العسكري مع المدنيين تعبيرا عن تلك الوحدة الأزلية بين جيش مصر وشعبها، تجلت تلك الوحدة منذ آلاف السنين ولا زالت، ولا عجب فقد تأسس هذا الجيش ليكون جيشا للوطن فحسب، ليس بالجيش الذي يحتكره ملك أو رئيس أو طائفة.

أمضى الملك أحمس عامه الأول في ترتيب البيت من الداخل وإعداد العدة لمعركة المصير التي كُللت بالنجاح، ونجح جيش مصر في طرد الهكسوس من البلاد واستمر في مطاردتهم حتى حدودنا الشرقية، وتم استئصال شأفة الملوك الرعاة للأبد، ولم يظهر لهم اسم ولا رسم طيلة التاريخ، ربما كانت العاصفة من الأسباب التي زادت من حمية المصريين وإصرارهم على تحرير وطنهم بعد أن خرجوا من عين العاصفة.