الاتفاق النووى: أسئلة استراتيجية
بات لزاماً على العقل الاستراتيجى العربى، إن كان ما زال يعمل بكامل كفاءته، بعد كل ما تلقاه من «صدمات» الربيع العربى، أن يجيب عن أسئلة استراتيجية، هو وحده المخول بالإجابة عنها، أسئلة استراتيجية فجرتها تداعيات الاتفاق النووى الإيرانى الغربى، الذى قدم تسوية مرضية لملف دولى شائك، لم يجد المجتمع الدولى فى تعبيره الأممى ممثلاً فى مجلس الأمن إلا أن يباركه، بغض النظر عن أنصبة أطرافه من كعكة التسوية التى تتباين أحجامها بغير شك، قد تكون التسوية مرضية لطرفيه المباشرين، إيران وأمريكا، ولكنها ليست بالضرورة كذلك لأطرافه غير المباشرين كالعرب، حتى وإن أعلنوا -على استحياء- ترحيبهم الممزوج بالمرارة، التى لم تخفف من مرارته حملات «العلاقات العامة» الأمريكية. إن الاتفاق أزاح الستار عن مشهد جديد، كل الجدة، على مسرح الشرق الأوسط (الجديد) تتغير فيه الأدوار، ويتغير اللاعبون، وتتغير الديكورات والأضواء، ستختفى مشاهد تقادمت وصارت من إرث التاريخ، وسيتوارى لاعبون كانوا ملء السمع والبصر، وبين ليلة وضحاها لم يعودوا صالحين لأدوار تجاوزتها الأحداث.
كانت المفاوضات حول الملف النووى الإيرانى، التى استطالت حتى أرهقت أطرافها، بمثابة «لعبة صفرية» لا غالب فيها ولا مغلوب، أو هكذا صورت، وفى المراحل الأخيرة من المفاوضات كان يبدو أن الولايات المتحدة لم يعد بمقدورها أن تصبر أكثر من ذلك، كانت تتعجل نهاياتها والخروج منها، كما كانت تتعجل -قبل نصف قرن- مع الفارق الخروج من أوحال فيتنام، وهى ترى اهتماماتها الاستراتيجية تتحرك نحو الشرق البعيد، وتبين لها بما لا يترك مجالاً للمراجعة، أن هدفها القادم لن يكون فى الشرق الأوسط، الذى صار بالحسابات البراجماتية النفعية أقل إغراءً وأعلى كلفة، وإنما الهدف هناك فى أقصى الشرق، وإيران بموقعها الجيوستراتيجى هى بوابتها إلى «الشرق الواعد»، فهى الجار القريب من منافسيها الصاعدين، الصين والهند وروسيا، و«الممر» إلى المصالح الأمريكية الجديدة فى الشرق الأقصى، وهى «حليف محتمل» فى الاستراتيجية الأمريكية الجديدة فى الشرق الأقصى. ليس ثمة صدفة وراء هذه الخيارات الاستراتيجية، منذ ما يقرب من ربع قرن والمجلس القومى للمخابرات الأمريكية NIC يرصد توجهاً استراتيجياً بعيد المدى لانتقال القوة والثروة نحو الشرق سوف يبلغ ذروته فى 2025، وقد صدر تقريران عن المجلس، الأول فى 2004 والثانى فى 2008 يؤكدان هذا الانتقال فى مراكز الثقل الاستراتيجى الدولى، انتقالاً لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تخاطر بالوقوف بعيداً عنه، أو أن تستمر أقدامها مغروسة -إلى الأبد- فى أوحال الشرق الأوسط، الذى تتراجع مصالحها فيه، خصوصاً النفط وإسرائيل. فقد راكمت مخزوناً نفطياً يؤمنها سنوات طويلة ضد تغيرات السوق النفطية، وتقلبات المزاج السياسى للمنتجين العرب! أما إسرائيل، فهى فى ظل الشرق الأوسط (الجديد) أكثر أمناً عما كانت عليه فى أى وقت مضى، فهى تعيش أزهى عصورها الاستراتيجية، انهارت حولها جيوش الدول القومية التى ناصبتها العداء، وانصرف الباقون إلى إطفاء الحرائق التى أشعلها الإرهاب، واستبدلت الدول القومية المعادية للمشروع الصهيونى بكيانات طائفية، ليست إسرائيل -ولن تكون- هدفاً لرصاصها الطائش، هل أطلقت «داعش» أو «القاعدة» أو «النصرة» رصاصة واحدة على إسرائيل؟ على العكس ثمة إشارات لا تخطئها العين عن تعاون لوجستى وميدانى بينهما فى سوريا! ثم ألا يسند الإرهاب فى سيناء ظهره إلى إسرائيل؟!
ومن الواضح أن هذه الكيانات وجدت لتبقى، وإلا ما هى دلالة التصريح الأمريكى، على لسان رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكى بأن القضاء على «داعش» يحتاج إلى عشرين عاماً؟ إن لم تكن دلالته «وعداً» «بطول سلامة» لإسرائيل!
الولايات المتحدة وإيران إذن هما الطرفان الفائزان فى اتفاق تسوية الملف النووى الإيرانى، الولايات المتحدة سوف تخلع عباءة الشرق الأوسط الثقيلة القديمة، وتتخفف استعداداً لمهمتها الاستراتجية الجديدة فى الشرق الأقصى، أما إيران فقد انتزعت تسوية بطعم النصر، فقد تعهد الاتفاق برفع العقوبات الاقتصادية والعسكرية والسياسية عنها وسيجعلها أقل إحساساً بالعزلة، واعترف لها بحق تخصيب اليورانيوم، حتى وإن كان تحت «قيود».
وبهذه النتيجة سوف يكون من المحتم على العقل العربى المشلول من هول المفاجآت أن يجيب عن اسئلة استراتيجية آن أوان الإجابة عنها، هل أنهى الاتفاق النووى الإيرانى عصر الحرب بالوكالة فى الشرق الأوسط؟ وهل سيوقف الحروب ذات الطابع الطائفى بين الشيعة والسنة؟
إن الاتفاق الإيرانى الأمريكى سوف «يحرر» القرار العربى تجاه إيران من تصورات أمريكية مسبقة، فهل ستظل المسافة بين العرب وإيران بعيدة كما كانت، أم ستتخذ خطوات عربية لتضييقها والتقريب بينهما؟ أليست مصر بحاجة إلى سياسات مستقلة جديدة تجاه إيران تستهدف إعادة بناء الثقة وتمهد إلى الدخول فى حوار استراتيجى يقوم على «تعظيم» المصالح المشتركة «وتحجيم» المخاطر الناجمة عن تناقضات ثانوية بين أمتين، ما يجمع بينهما من وشائج الحضارة والثقافة والتاريخ يفوق ما يفرق بينهما؟!