«الأرض بتتكلم عربي»

كان فؤاد حداد عروبيا تجاوز الأقطار والبلدان إلى بلاد العرب الواسعة التي لا تفرق بين أحد بلون أو دين أو مذهب أو عرق وتحتضنهم جميعا، وكانت مصر في فترة حاضنة للعرب ولذا جاءها والده اللبناني وأمه السورية.

تأمل وهو يعرف العربي «لما تقول أجمل ما في الدنيا الميّة للعطشان، يعرفوك عربي، لما تقول ابني اتولد لاجئ، يعرفوك عربي، لما تقول يا رب، يعرفوك عربي، لما تباشر جهادك، ترمي أوتادك، في قلب دابح ولادك، يعرفوك عربي».

كان «حداد» أسطورة الشعر العامي والملهم لكل من جاء بعده أمثال جاهين والأبنودي وحجاب.

كان يسخر من الواقع ويعطيك الأمل في نفس الوقت، لا تيأس مع «حداد» أبدا، حكيم عميق في ثوب بديع من البساطة، يجعلك تحب الوطن والدين والناس والفقراء والأيتام دون تكلف.

كان يعيش حقا بين الناس لا يشبهه في اليساريين سوى المرحوم نبيل الهلالي الذي كان أسطورة في الزهد والتواضع وينحدر من أسرة رفيعة المستوى فوالده كان رئيس وزراء مصر.

ويعبر «حداد» عن نفسه قائلا: «المشي طاب لي، والدق على طبلي، ناس كانوا قبلي قالوا في الأمثال، الرجل تدب مطرح ما تحب، وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال، حييت ودبيت كما العاشق ليالي طوال، وكل شبر وحتة من بلدي حتة من كبدي حتة من موال» حفظناها صغارا وتمتعنا بها وما زلنا نتمتع بسماعها حتى اليوم.

كم أبكتني كلماته وأنا طالب في الثانوية وكلية الطب وبعدها، وهي تهز وجداني هزا مع انطلاقتها في جوف الليل بصوت وألحان المبدع سيد مكاوي، فتدق على القلوب مع دقات الطبلة بالكلمات المبدعة.

كنت أقول لنفسي كيف أبدع فؤاد حداد هذه الكلمات وكيف صاغ هذه المعاني الإنسانية النبيلة والإسلامية الدقيقة والمسيحية العميقة، كيف كتب بهذا العمق والنبل عن عمر بن الخطاب والقدس والإسراء والمعراج والنبي محمد وهو المسيحي البروتستانتي!.

وكيف كتب عن مصر وشعبها وعاداتها وانتصر لها وعشقها بصدق وهو من أصل لبناني سوري، وكيف يدافع ويحب الفقراء بتجرد دون الانتهازية التي رأيناها في غيره من اليساريين، وهو ابن الطبقة العليا فوالده كان أستاذا في جامعة فؤاد!.

إنني يمكن أن أبكي وأنا في هذا العمر وأنا أستمع إلى كلماته الرائعة ودفاعه عن القدس «مسحراتي يا مؤمنين، منقراتي مد الأنين، الله على رعشة الحنين، عمره ما كان الأمل ضنين، يا قدس نوارة السنين، كأن عيني في ميتمي، يا قدس ما يحتمل دمي، إلا أشوفك وأرتمى، وأبوس ترابك المريمي، أبوي وابني على فمي، يا عاصرة مهجة الرجال، سقاكِ من دمعته الهلال، الأعمى في سجدتك رأي، والفجر من صخرتك سقي، يا قدس تتفجر الجراح، والصبر حرب وأيوب صلاح، يا أخت من مكة والبطاح، قلبي انضرب للعرب وصاح، لا بد من فتح في الصباح».

عاش الرجل حياته كي يدرك فتح الصباح ويراه بعينه ولكنه مات مثل أجيال سبقته دون أن يراه.

كتب «حداد» في كل قضايا الوطن، عن الشهداء، عن نضال السويس، عن الظلم الاجتماعي، وهذه كلمات عن إمام العدل عمر بن الخطاب حاكيا قصته مع الأيتام وختمها بقوله «جاب المؤونة، بإيدين حنونة، وقال يا مضر، تخدم إيدي.. بدو وحضر، الإنسانية كلمة غنية، دم وعبر، أسلافنا هم، شقوا مداها فطرة وبداهة، وخير أمة نمشي بهداها على الأثر».

كلمات رائعة من قلب أبيض ونفس صافية تعشق العدل الاجتماعي وأهله، كان إنسانا بمعنى الكلمة تأمله قائلا: «يا ليلة القدر لما تفتحي الطاقة، كل العيون في مراية مصر تتلاقى».

هزته هزيمة يونيو فأنشد أقوى قصائده «الأرض بتتكلم عربى» وفيها «إن الفجر لمن صلاه، ما تطولش معاك الآه، الأرض بتتلكم عربي ومن حطين، بترد على قدس فلسطين، أصلك ميه وأصلك طين»، وهو صاحب الصيحة الشهيرة المؤثرة في الأجيال العربية حتى الآن «الأرض بتتكلم عربي»، وهذه الجملة أكثر حضورا من كلمات الساسة وخطبهم بعد هزيمة يونيو 1967.

عشق مصر بكل مشاعره «يا مصر واحة مسعدة، نطقت والفجر كان صدى، حتى الشجر في الحجر شدا، لما بدأت التاريخ بدا، أنت الأميرة المجاهدة، الإنسانية أم الفدا، أم الحضارة يا والدة، ضميت الأزهر والسيدة، وألف مادنة يدا يدا، سياج لأمة موحدة، يا مصر عيشي على المدى، واهدينا ثانية مخلدة، إما الشهادة أو الهدى».

سجن كثيرا ولم يحقد على أحد «الشكر للي سجنوني» مدح الرسول محمد كثيرا «أنا ساكن البرج والتهمة سياسية، مع النبي قلت كل الناس سواسية».

سعد مع سعادة وطنه كما حزن لانكساراته، مدح نصر أكتوبر وكتب عنه 30 قصيدة رغم خلافه مع «السادات».