دولة الإعلام وإعلام الدولة
فارق كبير بين دولة حاضرة فى مقدرات تشكيل وعى وثقافة مواطنيها وإدراكهم، وبين دولة تركت مقدرات فهم الناس بها لإعلام خاص بات دولة فى حد ذاته. هذا هو تلخيص حالنا يا سادة للأسف الذى لم يبدأ من يومنا هذا ولا منذ اندلاع ثورة يناير 2011 ولكن من قبلها بسنوات، حينما صار الإعلام جزءاً من تخفيف الإحباطات الداخلية الناتجة عن غياب الدولة من جانب، ووسيلة تستخدمها لإرضاء العالم الخارجى الضاغط عليها لتنفيذ رؤيته من جانب آخر. تراجعت الدولة خطوات وتقدم الإعلام خطوات فبات المحرك.
أقول هذا وأنا من المنتمين لمهنة عشقتها منذ طفولتى ودرست تفاصيل العمل بها فى كلية الإعلام جامعة القاهرة أربع سنوات انتهت عام 1991، أقول هذا وقد مضى على عملى فيها ربع قرن من الزمان ومنذ 2007 أرفع صوتى محذرة من إعلام بات يجرى وراء عود الكبريت المشتعل فإذا ما انطفأ تركه وانصرف عنه باحثاً عن عود جديد. ولذا لم يكن إعلام تنمية ولا توعية بقضايا -حتى وإن بدا متحدثاً مجلجلاً عالى الصوت- ولكن إعلام إثارة صار فيه الإعلان هو الداعم للمذيع وهو المحدد للمضمون. وأقول هذا وأنا أتابع للأسف تفاهات ليس لها محل من العرض فى دولة تخوض حرباً داخلية وخارجية لحماية أمنها والنهوض بشعبها. ولذا أكررها علَّ فى بلدى من يسمع بأنه لن يستقيم حالنا طالما غابت الدولة عن الإعلام فى مرحلة فرضت فيه حروب الجيل الرابع والخامس نفسها على البشرية، رافعة شعار «ليه أسيح دمك لما ممكن أسيح مخك وأموتك بإيديك».
يأتى كلامى يا سادة وأنا أتابع الشىء وعكسه على قنوات ترفع شعارات حرية الرأى والديمقراطية والفهم والتوضيح، بينما ما يحدث هو التشتيت وتغييب الوعى وتجاهل القانون. وإلا فما تفسير استضافة أعضاء ألتراس صدر حكم باعتبارهم جماعة تمارس العنف فى المجتمع وتهدد أمنه وأمن شبابه وينتمى بعض منهم لجماعة الإخوان؟ أليس فى هذا مخالفة لقانون؟ أليس فى هذا عدم اكتراث بدولة؟ أليس فى هذا تشجيع لشباب على مواصلة الانضمام لتلك الجماعة المحظورة بالقانون؟ وما تفسير ظهور واستضافة شخصيات أدمنت التطاول والإسفاف دون حساب لحرمة البيوت التى تفتح الشاشات وتستمع لها؟ ليس لها تفسير إلا حسابات الإعلانات والمال المدفوع لمواصلة التسفيه والتغييب وانهيار القدوة بين عباد الله من المصريين واستمرار حديثهم فى تفاهات، بينما الدولة تخوض حروب الأمن ولقمة العيش.
ولكن وإحقاقاً للحق فإن العيب ليس بعيبهم فى دولة الإعلام -التى يزداد خوفى عليها فى ظل تكتل ساويرس الذى بات يسيطر على معظم القنوات اليوم- ولكن عيب الدولة التى رغم علمها بخطورة الكلمة وتزييفها، فإنها تركت الملعب لدولة الإعلام تصول فيه وتجول دون فهم أو دون ضمير. ليس هذا فحسب ولكنها لم تسع هى الأخرى لحماية هيبة القانون الذى ننادى به جميعاً. فلم تلتزم بمجلس أعلى للإعلام كما ينص الدستور، ولم تلتزم بحماية مواطنيها من عمليات التغييب والتجهيل وانهيار الأخلاق الممارسة ضدهم عبر شاشات تدعى الحرية؟
نشكو انهيار الأخلاق وتراجع القيم والعيب فينا. نشكو تغييب الوعى والجهل ونحن من نتسبب فيه. نحن بحاجة لإعلام دولة يصحح ويوضح ويعرض الصورة كاملة دون تفريط فى أمن قومى أو تقييد لحرية تداول المعلومة. نحن بحاجة لدولة القانون الذى يضمن الحرية المسئولة يا سادة بلا تطاول ولا إسفاف ولا تهميش للقانون الذى نريد أن نراه مطبقاً على الكبير قبل الصغير.