ناصر عبدالرحمن يكتب: الشخصية المصرية (5).. «عاطفية»

تميل الشخصية المصرية للعاطفة، تأسرها العاطفة وتشكل أكبر تأثير فى قرارها، لا يخلو منطق ولا حضور إلا والعاطفة جزء منه، حتى المتكبرين تجد فيهم عاطفة ما، أمثال فرعون الذى لان واستجاب لقول زوجته السيدة آسيا، قال تعالى «قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ».. قول السيدة آسيا فيه عاطفة، واستجابة فرعون بعاطفة، كذلك عندما أمر الله أن يذهب سيدنا موسى إلى فرعون، قال له رب العزة الرحمن الحكيم: «فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى».. كذلك نرى لين سيدنا يوسف مع الابتلاءات التى تعرّض لها فى مصر من بيع وشراء واتهامات وسجن قابلها كلها باللين.

هكذا المصرى مفتاحه العاطفة واللين، إذا أحبك المصرى يصنع من أجلك المعجزات، ويبنى لك الأهرامات، عاطفة المصرى تسوقه وتسبقه، وتتحكم فى قبوله أو رفضه:

بالعاطفة، محمد على حكم مصر بإلحاح من شيوخ وكبائر مصر. بالعاطفة، نابليون رسم تقديسه لشعائر المسلمين ليلين له المصرى، وتزوج مينو من زبيدة المصرية فظهرت عاطفة المصرى ولان، أحب الشعب محمد نجيب فحملوا سيارته وتقبّلوه، وعندما أحب المصرى جمال عبدالناصر ابتلعوا هزيمة 67.

مقاومة المصرى للاحتلال عاطفة قوية تصنع شخصية لها انتماء ووطنية، غنى المصرى للفدائى «قولوا لعين الشمس ماتحماشى، لاحسن حبيب القلب صابح ماشى»، وعندما يحب المصرى الجنوبى «الفار فى شقه ما رجد عينه لجستها وعينه للحلق».. العاطفة تخلق من الحواديت أساطير «ياسين وبهية»، أبدع فيها الحكاء المصرى وزاد من العاطفة ليخلق منها أسطورة حب «حسن ونعيمة» قصة مغنى أفراح فى قرية من قرى بنى مزار بمحافظة المنيا غيّر فيها الحس الشعبى بالعاطفة حولها من قصة فيها تجاوز ضد العرف والتقاليد إلى قصة حب رومانسية خالدة حتى «أدهم الشرقاوى» بالعاطفة حولها المصرى إلى قصة مقاوم للإقطاع، وفدائى ضد المحتل الإنجليزى.

وقال المثل الشعبى «حبيبك يبلع لك الزلط وعدوك يتمنى لك الغلط».. هكذا المصرى عاطفى، رد فعله نيابة عن عاطفته، هذه العاطفة خلقت تلاحماً أسرياً، جعلت الابن يسكن بالقرب من الحى الذى عاش فيه، جعلت الشجار بين الشباب ينتهى بذكر صلوا على النبى، إحياء الموالد للأولياء والقديسين عاطفة، التكافل بين الطبقات عاطفة، الذى يحمى مصر من الانفلات عاطفة، حتى الثأر فى صعيد مصر وبعض القرى فى الدلتا نابع من العاطفة.. العصبية عاطفة.. فى حكايات الأفلام ينجح النجوم والنجمات بالعاطفة.. إذا أحبك المصرى دافع عنك ومال إليك.. حتى نجاح السورى فى مصر بسبب معاملته مع الزبون المصرى بالعاطفة.. الألتراس الأهلاوى أو الألتراس الزمالكاوى تشجيعه الجنونى عاطفة.. سبب تمسك العائلات ببعضها عاطفة.. علاقة الفلاح بأرضه عاطفة.

سبب اتصال المهاجر المصرى وإصراره على لغته ولكنته المصرية عاطفة، العاطفة قانون المصرى وسلاحه ضد القسوة والفقر والمرض، إذا عرفت هذا المفتاح من مفاتيح الشخصية المصرية، وإذا نجحت فى تكوين جسر المودة والعاطفة بينك وبينه فتأكد من نجاحك، العاطفة شرط المصرى وعرفه، هذا السر الذى جعل ممثلاً نجماً محبوباً، وجعل ممثلاً آخر بينه وبين المصرى مسافة.. الشيخ الشعراوى جزء كبير من مقامه عند المصريين عن طريق الحب.. كذلك الشيخ أحمد الطيب أحبه المصرى، فسمعه وفهمه ووقره، مكانة أبوتريكة عند المصريين عاطفية، قبلوه وتجاهلوا كل من يبعدهم عنه، عاطفة المصريين انقلبت على محمد الحلو عندما غيّر فى كلمات أغنيته، كما انقلب المصرى على الشاعر جمال بخيت وعلى الملحن عمر خيرت عندما غيرا كلمة المصرى.

العاطفة كنز فى قلوب المصريين، من يريد قربهم يعاملهم بالحب والعاطفة، ولن يجد رد فعل المصرى، إلا بالحب والعاطفة، يكرهك إذا تغيّرت، وأظهرت معاملة قاسية غليظة فيها كبرياء، وتأكد أن المصرى أعان وأطاع سيدنا يوسف عندما أحبه، هو نفسه المصرى الذى انقلب على فرعون ومال نحو سيدنا موسى عندما أحبه، المصرى الذى يحيط مقامات الأولياء بالحب ويدافع عنهم رغم شر المتطرّف المستورد من الخارج.. مصر بلاد العاطفة، تحب وتخلص وتفتدى من تحب، مفتاحها العاطفة وأبواب قلوبها تفتح بمفاتيح الحب، هكذا رداء عباءة المصرى حضن وعاطفة، تتحمّل الأم الفقر والهجر وفراق أولادها بدواء العاطفة، وتستعيذ الزوجة بالحب على المسافات والبعاد من زوجها المسافر، خلقت العاطفة فى حضن النيل المصرى، ما أجملها من عاطفة عذبة.

البيت المصرى جدرانه من العاطفة، هذا ما جعل مكانة المرأة المصرية مميزة، لأنها تعيش فى مجتمع عاطفى تهواه المرأة المصرية، تتربى على كلمات الغزل والمدح واللين والعاطفة، حتى شكل البيت المصرى عاطفى، يختلف عن البناء الجديد الألمانى الذى يستغل كل سنتيمتر دون فهم لطبيعة الشخصية المصرية العاطفية، القديم بالنسبة للمصرى يمتزج بالذكريات التى تظهر عاطفته، لذلك يتألم عندما يتهدّم جزء من ذاكرته التى تُشكل عاطفته، عاطفة المصرى تجعله يرفض بيع قديمه، لذلك خلق الصندرة وخزّن كل قديمه وقدّره، «العروسة» القديمة التى جاء بها الأب ما زالت فى حضن البنت ودولابها، الحصان القديم ما زال الشاب يحميه من تأثير الزمن.

الفيلم القديم الأبيض والأسود يحبه المصرى بالعاطفة، ليس لجودته الفنية فقط، خسارة المصرى لتاريخه السينمائى بفعل فاعل من تجار وسماسرة الفن المصرى الذين تاجروا ويتاجرون إلى ما شاء الله بكل توحّش لمحو التاريخ السينمائى المصرى، الذى هو بالضرورة تاريخ المصرى العاطفى، حفلات أم كلثوم المصورة بكاميرات السينما سُرقت فى علب الجاتوه، وخرجت من خزائنها مع تجار الفن وسماسرته إلى الخارج، وتُعرض فى قنوات غير مصرية، والسمسار والسمسارة يبكيان ضياع الفن المصرى، هذا الفن هو المعبر عن عاطفة المصرى، أغانٍ كثيرة ترتبط بتاريخ عاطفى للمصرى والمصرية، لأن العاطفة نهر المصرى الذى يرتوى به، ومن يكرهنا يحاول أن يسرق أو يحول مجرى النهر بعيداً عن شرايين المصريين. إن العاطفة من ملامح تشكيل الشخصية المصرية، مهما كانت درجة ثقافتها ومهما كانت طبقتها الاجتماعية أو الاقتصادية، العاطفة نحت أصيل فى وجه الملامح المصرية..

اتركوا لنا العاطفة ولا تحاربوا المصرى ولا تهدموا له بناء شخصيته التى تمتزج بالعاطفة، فإن انتماء المصرى مصدره، ومكمنه حرزه، وكنزه فى العاطفة.. اللهم فاشهد.