الشيخ طه الفشني.. «أغرقتَنا في بحور العشق الإلهي»

سعيد حجازي

سعيد حجازي

كاتب صحفي

اختص الله عز وجل مصر برموزها وقوتها الناعمة، التي تركت تأثيرًا كبيرًا في الإرث الثقافي والتاريخي والثقل الإنساني والحضاري لأرض الكنانة، وكانت ولا تزال كنوز خالدة، ضاربة في أعماق الوجدان المصرى، بإبداع سلاطينها عبر العصور، أحد علامات هذه القوى الخالدة، مدرستي «التلاوة المصرية» و«الإنشاد الديني»، واللتان تمثلان الرموز الروحية لتلك القوي.

نماذج كُثر فازت بهم المحروسة، جمعت بين المدرستين حيث حلاوة تلاوة القرآن الكريم والإبداع في الابتهالات، من بين هؤلاء الأعلام ، ومن الرعيل الأول مولانا الشيخ طه الفشني، صاحب المكانة الرفيعة في كلا المدرستين، والعَلَم المتفرد في أصولهما، ورائد فنون الموشح.

العارفون بأحكام مدرستي «التلاوة والإنشاد»، يتفقون علي تفرد الشيخ «الفشني» في هاتين المدرستين، حيث براعته في تلاوة الذكر الحكيم وإتقانه تجويدًا وترتيلًا، بصوته العذب، وطول النفس، والإحساس المتميز والأداء الفريد، بجانب مهارته في الانتقال بين المقامات الموسيقية بسلاسة واقتدار لا مثيل لها، خلال إنشاده، فكان خير سفير للإسلام في بلدان العالم، والتي زارها مبعوثًا ومدعوًا ومكرمًا من الزعماء والرؤساء والملوك والقادة.

على أوتار الروح، عزف «قيثارة المنشدين» تواشيح المناجاة والمحبة، وبحنجرته الذهبية أثري النفس بالإيمان، أغرقنا في بحور العشق الإلهي حيث تشتاق الروح ويفيض الحنينُ إلى رب العالمين، فأخرج لنا كنوزًا مثلت جزءًا من ذاكرة الأجيال، منها «ميلاد طه»، «حب الحسن»، «إلهى»، و«سبحان من تعنو الوجوه لوجهه»، إلا أن الابتهال الأهم هو «يا أيها المختار.. لمدحه ماذا أقول.. والله طهر من سفاح الجاهليه أحمدَ.. ذو رأفة بالمؤمنين ورحمة.. سماك ربك فى القرآن محمدَ.. نادت بك الرسل الكرام فبشرت»، تجلي علينا مولانا الشيخ «الفشني» بهذا الابتهال والذي غسل القلوب، وتركها نقية طاهرة.

لأكثر من خمسة عقود، نسج مولانا الشيخ طه الفنشي قواعد مدرسة الإنشاد الديني بصحبة «أوتاد الإبتهال»، سيد النقشبندي ونصر الدين طوبار ومحمد الطوخي وغيرهم كُثر ممن شكلوا علامات فارقة في تاريخ الإنشاد الديني.

نال الشيخ «الفشني» حظه من المحبة بين الناس، فكانت الساحة الحسينية بالقاهرة، تمتلئ عن بكرة أبيها في ليالي رمضان حيث يغرد مولانا الشيخ «الفنشي» لساعات طوال، فيسهر عشاقه الليالي يستمعون اليه وهو يتحفهم بالابتهالات والتلاوة حتى أذان الفجر. كان مولانا «الفشني» الصوت المعشوق لكوكب الشرق السيدة أم كلثوم والتي أحبت صوته العذب الملائكي، فكانت من مستمعي تلاوته للقرآن الكريم، ولقبته بـ«ملك التواشيح الدينية بمصر والعالم العربي والإسلامي».

بدأ مولانا الشيخ الفشني مسيرته الإبداعية في الإذاعة المصرية في أواخر الثلاثينات، حيث قادته الأقدار للإذاعة دون أن يسعى هو لذلك، ففى إحدى الحفلات التى حضرها سعيد باشا لطفى، رئيس الإذاعة آنذاك، للشيخ علي محمود سيد القراء وإمام المنشدين، قابل الشيخ طه الفشني، وأعجب بصوته، حيث قرأ الشيخ الفشني بدلًا من الشيخ علي محمود لمرضه بناءًا على طلب القائمين على الحفل، وبعد أن أنهى الشيخ الفشني القراءة استدعاه رئيس الإذاعة وقال له: «يا شيخ طه بكره لازم تكون عندنا في الإذاعة المصرية‏، وصوتك لازم يأخذ فرصته ويستمع له الناس في كل بر مصر»، قدرت لجنة الاستماع صوته بأنه قارئ من الدرجة الأولى الممتاز.

من قرية الفشن بمحافظة بني سويف، خرج مولانا محبًا لكتاب الله، أتم حفظ القرآن الكريم، وهو فى سن العاشرة من عمره، ثم التحق بمدرسة المعلمين بالمنيا، وحصل فيها على دبلوم المعلمين، ومن تلك البقعة إلى حي الحسين وشوارع قاهرة المعز بدأ مولانا «الفشني» رحلته في خدمة القرآن الكريم، ودراسة فنون الإنشاد الديني، فتتلمذ على يد الشيخ عبدالحميد السحار والشيخ المغربى، ورافق الشيخ علي محمود خلال تواجده في القاهرة والذي إعتبره خليفته في القراء والتواشيح، قال له ذات يوم «لقد تأكدت الآن يا طه أنك خليفتى».

لمولانا الشيخ طه الفشني كرامات إختصه الله بها، ويراه العارفون بالله وليًا من أولياء الله الصالحين فهو من أهل القرآن، وقصته مع انحباس الصوت خير شاهد على ذلك، حيث أصيب مولانا بانحباس فى صوته استمرت معه هذه الحالة لعدة أسابيع ولم يفلح الأطباء في علاجه، لكنه لم ييأس من روح الله ومضى إلى الأراضى المباركة ليؤدي فريضة الحج، وأثناء وقوفه في عرفات وعلى جبل الرحمة، شق الفضاء صوت جميل يؤذن لصلاة العصر، فإذا به صوت مولانا طه الفشني الذي استرد صوته، بكرم من الله تعالي، ليرى الناس فيه معية رب الأرباب ورحمته.

الكلمات لا تسعني في الكتابة عن علامة الانشاد الديني، فهو ليس بحاجة إلى أى تعريف أو تقديم، بل هو أغنى عن أى كلمات تقال أو تكتب، مهما فتَّشنا فى مناجم مولانا الفشني فإنها لا تنضب، فإرثه ضارب في قلب وروح المصريين، وجزء من الإرث الثقافي والثقل الإنساني لهم.

توقف وهج صوته الشريف في العاشر من ديسمبر لعام ألف وتسعمائة وواحد وسبعين، حيث حلت ذكرى رحيله من أيام، رحل الجسد وبقي إرثه باقيًا وشاهدًا على خلوده، ويظل مولانا الشيخ طه الفشني «كروان الإذاعة» الذي لا ينسى.