اتفاق الأضداد: اغتيال الدولة الوطنية!
لا شيء يحدث صدفة.. خاصة في الشرق الأوسط التعيس!
لم تكن كونداليزا رايس، عرّابة الخارجية الأمريكية التي شاركت ضمن حكومة جورج بوش في جريمة احتلال العراق، أول من صك مصطلح «الفوضى الخلاقة» في حوارها لصحيفة «واشنطن بوست» عام 2005.
قبل «رايس» كان هناك المستشرق اليهودي «برنارد لويس» -أمريكى الجنسية، بريطاني الأصل- الذي استخدم المصطلح نفسه في شرح مخططه لتقسيم الشرق الأوسط، مطلع تسعينيات القرن الماضي، عقب سقوط الاتحاد السوفيتي، وما ترتب عليه -حسب «لويس»- من حاجة العالم، وحاجة الولايات المتحدة على وجه التحديد، إلى شرق أوسط جديد.
ليس لويس مجرد رجل يُثرثر.. إنه صانع العقل الأمريكي لسياسات الشرق الأوسط.
وهو ليس رجل ثقافة محض، بل هو أحد سعاة البريد بين مراكز الفكر ومراكز صنع القرار في الولايات المتحدة!
الجوهر الأساسي لفكرة «الشرق الأوسط الجديد»، في كل إصداراتها وتحديثاتها، والتي أخذتها «رايس» عن «لويس»، وأخذها «لويس» عن سابقيه، هو صعود الهوية الدينية بديلا عن الهوية الوطنية، بحيث تصبح الجماعة محل الدولة، والميليشيا المسلحة محل الجيش المؤسسي النظامي.
ثم بعد ذلك ينشأ صراع داخلي ديني - ديني بين المتنافسين السُنة على انقساماتهم والمتنافسين الشيعة على طوائفهم، وبالتالي تقسيم خريطة العالم العربي إلى فسيفساء ورقية ضعيفة ومتصارعة.
يقتضي هذا السيناريو بالضرورة إزاحة الدولة الوطنية ابتداءً، رئيسا، وجيشا، ودستورا.. ثم يكون ما سوف يكون، في رأيي، أن جريمة العراق 2003 كانت الخطوة الأولى لتنفيذ هذا السيناريو.. ثم جرت كرة الثلج بعد ذلك.
بعد الغزو الأمريكي، نشبت الحرب الأهلية في العراق 2006 - 2008، ثم تصاعدت تدريجيا روح المذهبية والطائفية بطول الإقليم وعرضه، ثم جاءت عواصف الخريف العربي، ثم تصاعدت أكثر فأكثر الجماعات والتنظيمات على حساب الدول والمؤسسات.
حدث ذلك في العراق، ثم سوريا، وليبيا، والسودان، واليمن، ثم يُعاد المشهد الآن في سوريا من جديد.
بقراءة عميقة ومجرّدة لما شهدته وتشهده المنطقة خلال خمسة عشر عاما حتى اليوم، سنجد أن الهدف المشترك بين كل الأحداث والتصعيدات وموجات العنف الديني وحروب الوكالة في المنطقة، إنما هو «اغتيال الدولة الوطنية».
يبدو أن هذا هو الشيء الوحيد المتفق عليه بين الفرقاء والأعداء، فالدولة الوطنية مستهدَفة لصالح مشروعات استعمارية من الخارج ومخططات طائفية من الداخل.
ورغم كل أوجه الصراع الشكلي -الثقافية والسياسية والدينية- بين المستعمرين الجُدد والطائفيين الجُدد، ورغم الاختلاف الشكلي أيضا بين الكِبة اليهودية وعمامات الشيعة ورايات المجاهدين السُنة، إلا أننا نبدو أمام اتفاق أضداد في لحظة مخاض استثنائية.. لحظة قد اختلف فيها الفرقاء والأعداء على ألف شيء، لكنهم اتفقوا على المشترك المهم الوحيد بينهم: اغتيال الدولة الوطنية.
وليست مصر بمنأى عما يدور على جبهاتها ودوائر أمنها القومي.
فما نشهده الآن في هذا الإقليم التعيس، خُطط لنا من قبل، حين وقفنا جميعا على حافة الضياع في سنوات السيولة والفوضى والعنف، واقتربنا من نقطة لا عودة فيها.. لولا جيشنا الوطني العظيم، ووحدة هذا الشعب الباسل.. حفظ الله مصر، وجيشها، وأهلها الذين هم في رباط لا فَك فيه.